كيف نجعل الثقافة محركاً للاقتصاد؟

منذ 1 سنة 169

جوهر المسألة التي حاولت إيضاحها في الأسبوعين الماضيين، هو دور الثقافة العامة في تحفيز التقدم؛ لا سيما على الجانب الاقتصادي.

نقصد بالثقافة هنا ما نسميه العقل الجمعي. ولكيلا نقع في خطأ التصور السلبي للعقل الجمعي، تهمني الإشارة إلى أنه ليس صفة سيئة. إنه أقرب إلى معنى العرف العام، أي مجموع القناعات والقيم والمفاهيم التي تحكم سلوك عامة الناس في مجتمع ما، وتشكل الصورة العامة للمجتمع. فنقول إن هذا المجتمع بسيط أو متحفظ، وإن المجتمع الثاني كريم أو بخيل، والثالث نشط وسريع الاستجابة... إلخ. هذه ليست صفات دقيقة لكل فرد في هذا المجتمع أو ذاك؛ لكنها المتوسط العام الناتج عن مجموعة صفات يتصف بها كل مجتمع.

أما المراد بالاقتصاد فهو دائرة المعيشة، أي مصادر الإنتاج ووسائله، وقابليتها للتجدد والتطوير، ومدى العدالة في توزيع ثمرات النشاط الاقتصادي القومي على أفراد المجتمع. نعلم أن غالب المجتمعات العربية في وضع أقل من المطلوب؛ لأن المسافة بيننا وبين الدول الصناعية شاسعة جداً، في مختلف المجالات، في إنتاج العلم والتقنية، وفي مستوى المعيشة وجودة الحياة، إلى المساواة والعدالة والمشاركة في صناعة المستقبل.

هذا يقودنا إلى العنصر الأول من عناصر الثقافة الداعمة للتقدم، أعني به الحاجة لمثال نحتذي به كمعيار للتقدم المنشود. إن النموذج والمثال الواضح أمامنا اليوم هو المجتمعات الصناعية الغربية، ومن سار على أثرها في الثقافة والتنظيم الاجتماعي. أريد التأكيد على هذا؛ لأننا في أمسِّ الحاجة إلى علاج ما أعده عقدة تفسد نفوسنا، وهي العقدة المتمثلة في إعلان الكراهية للغرب، وادعاء العداوة له، رغم ميلنا الصريح -أو الضمني- لاحتذاء نموذج الحياة الغربية.

هذه العقدة لم تقم على أرضية الدين كما يتخيل كثيرون؛ بل «استعملت» عباءة دينية لتبرير الانكماش على الذات، والتفاخر بالذات في الوقت نفسه. إن الشتيمة الآيديولوجية والشتيمة السياسية للغرب، ليست سوى محاولة للموازنة بين الانكسار الذاتي الذي يحث على الانكماش، وضغط الحاجات الملحة الذي يتطلب التواصل مع الغرب. وهذا هو مسلك «النفس المبتورة»، حسب تعبير المفكر المعروف داريوش شايغان.

لن نستطيع الانضمام إلى ركب منتجي العلم، ولن نقيم اقتصاداً قادراً على الصمود في وجه الأزمات، إلا إذا اجتهدنا في تنسيج أصول العلم والإدارة الحديثة في ثقافتنا. وهذه الأصول عند الغرب وليست عندنا. وهي محملة بفلسفة تتعارض جدياً مع كثير من قناعاتنا وأعرافنا الموروثة. فإذا بقينا على «وهم» أن تبنِّي فلسفة الحياة الجديدة مشروط بتوافقها مع موروثنا الثقافي، فلن نخرج أبداً من أسر التقاليد العتيقة التي عطلتنا ما يزيد على 1000 عام. الحل الوحيد والضروري هو التخلي عن تلك الأوهام، مهما كان الثمن.

أما العنصر الثاني، فهو إعادة الاعتبار للعلم كقائد لقطار الحياة. أقول هذا مع علمي بأن بعض الناس سيعترض قائلاً: كيف نزيح الدين عن دفة القيادة ونسلمها للعلم؟ وجوابي لهم: إن الدين الذي يُفهم كمزاحم للعلم أو معارض له، لا يصلح لقيادة الحياة، ولا يمكن أن يكون دين الله؛ بل هو نسخة أخرى من التقاليد الاجتماعية التي لبست عباءة الدين.

لا يتعارض الدين مع العلم، ولا يحتل مكانه في إدارة الحياة وتسييرها.

للدين مكان رفيع وللعلم مكان آخر، ولا يمكن لأحدهما أن يحتل مكان الثاني. فإن أردت أن تعرف من يقود الحياة، فانظر في حياتك اليومية: كم نسبة الأعمال والسلوكيات والقرارات التي تتخذ بناء على معطيات العلم أو في سياقه، وكم يتخذ خارج هذا السياق.

الاقتصاد الحديث قائم على معطيات العلم الحديث، فإن أردنا النهوض ومسابقة الآخرين في هذا المجال، فليس ثمة طريق سوى تمكين العلم من مقعد القيادة، أي الاعتماد على معطياته في كل جانب من حياتنا دون استثناء. وأعني هنا الحياة العامة، لا الشخصية.

ولنا عودة للموضوع في القريب إن شاء الله.