مثل توماس هوبز، ولدت أفكار جون لوك السياسيّة من معاناته الحرب الأهليّة. فهو كان في العاشرة عند اندلاعها، ولدى إعدام تشارلز الأوّل، سمع صراخ الجماهير من مدرسته التي تجاور القصر الملكيّ، ما ترك عليه أعمق الأثر.
وفضلاً عن مساهمتيه اللاحقتين في التسامح وفي التعليم، أجاب لوك عن السؤال الحارق: «من الذي ينبغي أن يحكمنا؟». ذاك أنّ من يحكمنا هو مَن يجنّبنا الحرب الأهليّة، لكنّه أيضاً، وكي يفعل ذلك، ينبغي أن يضمن للرعايا الحياة والحرّيّة والمُلكيّة. فإذا كان مصدر التنازع كامناً في الطبيعة الإنسانيّة، في نظر هوبز، فهو عند لوك كامن في سياسة وسلوك محدّدين معمول بهما.
هكذا ابتدأ كتابه «مَبحثان في الحكومة» بمساجلة ضدّ روبرت فيلمر، الكاتب المَلكيّ إبّان الحرب الأهليّة، والذي رأى أنّ السلطة الإنسانيّة متفرّعة كلّها عن الله. فهو من أعطى الأرض لآدم، ومع الزمن راحت هذه الأعطية تُقسّم وتتوزّع، فنشأت عنها سلطة الملك على رعاياه والأب على عائلته والسيّد على عبيده، وهي جميعاً سلطات مطلقة تتحكّم بحياة الخاضعين لها في سائر أوجهها.
أمّا لوك الذي برغم إيمانه، لم يقرّ مبدأ «الحقّ المقدّس للملوك»، فرفض أيضاً تأويل فيلمر للكتاب المقدّس. فالله، عنده، أعطى الأرض للبشر أجمعين، لا لآدم وحده، وبدورها فسلطات الملك والأب ومالك العبيد ليست من طبيعة واحدة.
فإذا كان من غير الجائز أن يخرّب البشرُ الأرض التي أعطيت لهم ويبدّدوها، فمن غير الجائز أن يتعدّى الأهل دورهم كقيّمين على الأبناء إلى أن يبلغوا الرشد. والسلطة هذه مختلفة بالتأكيد عمّا قد يمارسه السيّد بعبده. ثمّ إذا كان الزوج سيّد البيت (تبعاً لذكوريّة ذاك الزمن وبطركيّته بما فيهما ذكوريّة لوك نفسه وبطركيّته)، فهذا لا يعطيه حقّ الحياة والموت على زوجته وأبنائه. أمّا سلطة الحاكم عموماً فينبغي أن تستند إلى موافقة السكّان، وهم في الحالات كلّها ليسوا أطفالاً بل كائنات عاقلة.
ومضى لوك فتناول «حالة الطبيعة» لكنّ صورته عنها، وعلى عكس هوبز، بدت أقلّ تشاؤماً. وهي لئن كانت أشدّ غموضاً وربّما تناقضاً، فإنّها بالتأكيد أحالت إلى الإرادة الإلهيّة وخلق الله للبشر على نحو لم يفعله هوبز.
لقد اعتبر أنّ تصوّره عنها يتجانس مع الرواية المسيحيّة حيث خلق الله البشر وهم في حال من المساواة والحرّيّة الطبيعيّتين. فالناس، الأحرار والمتساوون، ليسوا أولئك الكائنات المتناحرة التي رسمها هوبز، بحيث بات الوقوع على طاغية يحكمهم ويوفّق بينهم واجباً مُلحّاً. ذاك أنّ الحرب لن تكون دائمة بينهم بالضرورة، إذ لا بدّ أن يعمل عقلاؤهم على إحلال السلم وأن يحترموا الحقوق الطبيعيّة لسواهم. مع هذا فالسكّان لا يستطيعون البقاء في حالة الطبيعة، إذ بينهم مَن سوف يغلّب مصالحه وأنانيّته، ما قد يؤدّي الى التنازع والاقتتال.
هكذا وافق السكّان على تقديم تنازل جزئيّ للحكومة تفسّره أسباب ثلاثة: عدم وجود قانون في حالة الطبيعة، ممّا يعني أّن عليهم أن يستخلصوا القانون بأنفسهم، وعدم وجود قاضٍ غير متحيّز يتمتّع بسلطة تخوّله فضّ النزاعات، ممّا يجعل كلّ شخص يقرّر بنفسه ولنفسه، وعدم وجود سلطة تفرض القانون، هذا في حال التمكّن من وضع قانون.
بيد أنّ الناس لم يتنازلوا للحكومة عن كلّ حقوقهم. فهم أصحاب حقوق طبيعيّة في الحياة والحرّيّة والمُلكيّة لا تقبل التغيير ولا التنازل، كما لا يستطيع الحاكم انتزاعها منهم. والحال أنّ تنازلهم الجزئيّ، الذي يتيح تأسيس مجتمع مدنيّ وتشكيل حكومة، يبقى مرهوناً بأن يفضي إلى حفظ باقي حقوقهم على نحو أفضل وأصلب. هكذا تدافع الحكومة عن الأمن والحقوق، وعن تحسين أوضاعهم أيضاً، لأنّ ما من أحد يقبل عقداً يُرجعه إلى وضع أسوأ ممّا كان قائماً. لكنّ القبول بمصدر تحكيم غير متحيّز يلازمه وضع الصلاحيّات العليا في يد السلطة التشريعيّة، لا التنفيذيّة، واتّخاذ القرارات بتصويت أكثريّ. وعلى عكس هوبز أيضاً، يكون الملك طرفاً في العقد ولا يكون نتيجة له، ما يعني إلزامه، شأنه شأن الآخرين، بقواعد العقد ومُترتّباته.
أمّا إذا لم تصن الحكومة الحقوق، وانتفت بالتالي شرعيّتها، فالناس يصبحون مُطالَبين بإبدالها حتّى لو استدعى الأمر ثورة. وهنا يجادل لوك في الحقّ بمقاومة سلطة ظالمة: فالحكم المطلق لا يستوي مع حكم مدنيّ، ما يُفقده الشرعيّة ويعيد حالة الطبيعة مجدّداً لأنّ السكّان سوف يلجأون، والحال هذه، إلى تدبّر أمورهم ومخاوفهم حيال تلك القوّة المستفحلة بأنفسهم. ثمّ، ما الذي يضمن أن لا يتصرّف الحاكم، مثله مثل باقي البشر، بمزاجيّة وتقلّب وطغيانيّة؟
فالانتفاض، إذاً، عمل مؤسَّس في القانون الطبيعيّ، وهو ليس تخريباً بل تثبيت لنظام صائب، كما أنّه توكيد على مغادرة حالة الطبيعة التي أنتجها، هذه المرّة، فائض السلطة وليس انعدامها. أمّا الضمانة ضدّ الفوضى وحالة الطبيعة هنا فكَونُ السكّان أعقل من أن ينتفضوا ويطيحوا حكومتهم لأسباب تافهة أو لتذمّرات عارضة.
أفكار لوك هذه أثّرت في «إعلان الاستقلال» الأميركيّ، خصوصاً الحقّ في حمل السلاح، إذ على الناس أن يحتفظوا بالوسائل التي تتيح لهم إطاحة الحكومة. وهذا فضلاً عن تأثير آراء أخرى له، لا سيّما إصراره على التسامح الدينيّ وفصل الكنيسة عن الدولة. فإذا صحّ أنّ الثورة الأميركيّة انتصرت على الإنكليز، فإنّ الأميركيّين، كما كتب لاحقاً إدموند بيرك، كانوا يقاتلون دفاعاً عن مبادىء إنكليزيّة هي بالضبط مبادىء لوك.
لقد اعتُبرت تعاليمه مادة تأسيسيّة لأمور كثيرة. فثمّة من رأى فيها تمهيداً لتنوير القرن الثامن عشر، كما ظهر من يربط براغماتيّته بالتحوّلات العلميّة للقرن السابع عشر. وبدورها صُوّرت «الثورة المجيدة» التي امتدحها لوك، والتي نشبت في 1688، قبل عام على ظهور كتابه، انتصاراً للوعي اللوكيّ، وفي الآن نفسه حدثاً تأسيسيّاً لليبراليّة. فالثورة غير الدمويّة تلك لم تكتف بإزاحة الملك الكاثوليكيّ جيمس الثاني، بل وسّعت صلاحيّات البرلمان، وكرّست تعزيز موقعه في صناعة القرار.
وبريطانيا، مذّاك، لم تعرف حرباً أهليّة.