كيف للذكاء الكمومي أن يدمر أمماً أو يعمرها!

منذ 8 أشهر 95

كتب ستيفن هوكينغ، عالم الكونيات والفيزياء النظرية الراحل: «يمكن أن يعني تطوير الذكاء الاصطناعي الكامل نهاية الجنس البشري كما نعرفه الآن. سوف ينطلق من تلقاء نفسه، ويعيد تصميم ذاته، وتصميم الوجود البشري، بمعدل متصاعد. والبشر، الذين سيعون لإبطاء هذا التطور العضوي، لا يمكنهم المنافسة، وسيتم استبدالهم». تلك حقيقة لا مهرب منها. إنه شأن راهن، يغير جذرياً طبيعة العلاقات الاستراتيجية بين الدول.

وكما في القرن السادس عشر، تدخل البشرية عصراً جديداً من التنوير والفوضى. إذ لم تعد التكنولوجيا مجرد أداة بيد الاستراتيجي. بل صار الذكاء الكمومي هو اللاعب الاستراتيجي المتفرد والحاسم. فلقد ولد واستقام نمط جديد من الهيمنة.

فما هو الذكاء الكمومي؟ إنه الذكاء الناجم عن اندماج الذكاء الاصطناعي للحواسيب بأرقى أشكالها، مدمجاً مع الحوسبة الكوانتوم، التي تكسب الحوسبة سرعات فلكية. لتتعاظم قدراتها الخارقة، وتنتج أنماطاً لا مثيل سرعة تعمق المعالجة والابتكار والحلول والمعرفة.

بعد الآن، لن تبقى الاستراتيجية كما كانت قط! فلأول مرة في التاريخ، يُدخل البشر، بملء إرادتهم، كائنات غير عضوية لعقولهم وعالمهم. إنها لا تستهلك النبات واللحوم، بل يكفيها مقدار من الطاقة، كي تجمع المعلومات، ليعالجها الذكاء الكمومي بقدرات فائقة توازي الإنسان أو تفوقه، وتنتج معرفة عن الوجود البشري والكوني أعمق وأقوى. إنه واقع فعلي ينمو لا مرد له.

سرعان ما يُطرح سؤال ملح، عما سيبقى من الهوية والانتماء؟ وما سيتغير من دوافع الصراعات وطبيعتها؟ ما يبقى من الثقافة والمعتقدات التاريخية؟ بل تكمن المفارقة الهائلة في أن من سيجيبنا عن هذه الأسئلة، هو الذكاء الكمومي ذاته؛ لأنه أعلم! وهذا مجرد تحصيل حاصل.

مع تسارع نمو الذكاء الكمومي، يصبح معياراً للقوة البشرية. تنقلب علاقات القوة بين الأمم، ويتبدل المشهد الجيو - سياسي للعالم. بل تخترق التقنيات، من هذه اللحظة، الشيفرات والمعلومات الرقمية «الآمنة». وترعى الدول، قراصنة يشنّون هجمات إلكترونية لا تستهدف تدمير المعلومات، بل الهيمنة على البنى التحتية والأنظمة المالية والثقافية والمعلوماتية والمؤسسات المنافسة، ليمتد الغزو إلى خوارزميات التلفيق الإعلامي، والتوصية بالمحتوى، وضمان الانحياز الثقافي.

بذلك، وبعد أن فقدت الموارد الطبيعية والمنتجات الزراعية موقعها كمحور للصراع الاستعمار التقليدي العتيق، وبعد أن صارت الأسواق الكبرى جوهر الذي نعيشه الآن، ها هو مجال الذكاء الكمومي يزيحها ليصبح هو جوهر الصراع الدولي.

تكفي نظرة واحدة على حراك البورصات في العالم، لندرك كم تبهت صراعات الموارد والأسواق أمام الصراع المستميت في فضاء الذكاء الكمومي.

يقول شينزو آبي، الرئيس الراحل لوزراء اليابان: «في عصر الثورة الصناعية الرابعة، لم تعد أهم الموارد هي النفط أو الفحم، بل الأشخاص الموهوبون والبيانات. الدول التي لديها القدرة على القيادة في الذكاء الاصطناعي ستقود العالم». بل تنقلب التحالفات التقليدية ليعاد تشكيلها حول مراكز التطوير التقني للدول. ذلك أن تحالفاً نوعياً جديداً ومهولاً، يتبلور بسرعة بين هيكل السلطة في الدول الكبرى وبين مراكز التقنية الفائقة، التي راكمت ثروات أسطورية وقدراً خارقاً من المعرفة والذكاء، يرسم للتحكم في مستقبل الأداء البشري. وتصبح قدرة الدول على تكييف نموذجها للحكم والسيطرة مع متطلبات الثورة الصناعية الرابعة، هي العامل الحاكم في فرص بقائها.

تتلاحم، بقوة وبسرعة، كتلتان كونيتان كبيرتان تتصارعان على التفوق التكنو - استراتيجي: الكونسورتيوم الغربي بما فيه اليابان وكوريا، أمام الصين.

في الجوهر، يراهن الكونسورتيوم الغربي على تفوق لنموذجه الاقتصادي (بحسب تقديره). حيث يتآزر عاملان بشكل وثيق: عامل التزاوج العميق للقطاع الخاص مع الأكاديميات والجامعات ومراكز الإبداع من جهة، مع عامل القدرات الثقافة والترفيهية الهائلة للغرب، بحيث يعيد النموذج الثقافي الغربي تشكيل المعايير والسلوكيات الثقافية للعالم.

سيضع الذكاء الكمومي الأمم جميعاً أمام تحدٍ صارخ، لتظهير المحتوى الأخلاقي الإنساني لثقافتها. بذلك تستعر الفجوة الرقمية، ويتفاقم التفاوت الثقافي والاقتصادي، لتنبئنا بانفجارات كبيرة لصراعات الهوية والعصبيات. إذ يعيد هذا التحول العميق، تشكيل القيم الثقافية، والأطر الأخلاقية للأمم. ليجعل الخصوصيات الثقافية وجدواها، والاستقلالية والكرامة الإنسانية والهوية الوطنية موضوعاً عملياً للتنافس والصراع الفردي والدولي. وستواجه الهويات الوطنية المتجذرة في التراث الثقافي والتقاليد، تحديات في مواجهة التغير التكنولوجي السريع. ليصبح الحفاظ على التراث الثقافي وتعزيز التنوع الفكري معياراً أساسياً لقدرات الأمم على التكيف مع التحولات الجديدة.

من جهتها، تراهن الصين على قدرات نموذجها في الدولة الشمولية. يسمح هذا النموذج بتحسين القدرات التكنولوجية المنتجة، ويساعد نهج الحزب الشيوعي الصيني الهادف لتوسيع الاستخدام المجتمعي للتقنيات، في نجاح دمج التقنيات المعاصرة.

وكما في لحظة «سبوتنيك» (إطلاق القمر الاصطناعي السوفياتي1957)، فوجئت مراكز القرار الغربية، بإعلان الصين عن اختراق كبير للذكاء الاصطناعي - الكمومي. فبالاستفادة من قدراتها على استيعاب تمويل حكومي هائل، تطور مراكز البحث العلمي نماذج الذكاء الكمومي المدعومة، وتستفيد من التنوع العاذل لبيانات العدد الكبرى من السكان لإتاحة قدرات غير مسبوقة على توسيع الأبحاث. وبهدف تطوير هيكليات معمقة للسيطرة يسمح هذا التحول بتقاسم أفضل للموارد والبنى التحتية بين القطاع العسكري المدني الصينيين.

استجابة لصفعة «سبوتنيك» الصيني هذه، يتضافر الكونسورتيوم الغربي، لتعزيز دعم الدولة للقطاع الخاص، وإطلاق طاقاته الاستثمارية، بالاستناد إلى استمرار تدفق المواهب التقنية العالمية نحو الغرب ونحو وادي السيليكون بالذات. وعلى غرار ما قامت به الحكومة الأميركية في برامج تصنيع القنبلة النووية، وبرنامج «أبولو»، تتخلى الدولة الأميركية عن نهجها التقليدي الذي يحجم عن التدخل في التنافس الخاص وعن التنظيم المفرط للتكنولوجيا.

بل تتولى الحكومة الأميركية الآن مقعد القيادة في الدعم والتنظيم والرقابة على الذكاء الكمومي، وعلى منظومات المعالجة المعلوماتية بشكل واسع. ويقدم الكونسورتيوم الغربي ضمانات لتطوير حلول مشتركة للتقييم والتحقق من موثوقية الذكاء الكمومي. ذلك أن الحكومات الغربية، ستواصل الركض للحاق بالقطاع الخاص، الذي تسمح له دينامياته الحيوية، بالاستجابة المباشرة.

وبذلك، وعلى طرفي الصراع بين الغرب والصين، يمكن لهذا «التأميم» أن يغير أيضاً ميزان الثروة بين الأمم، بين مَن يملكون المعرفة ومن لا يملكون.

من جهته، تنطلق من عالمنا مبادرات عدة طليعية نوعية ومشاريع تمويل كبرى، على رأسها مشروع المملكة العربية السعودية إلى جانب مصر والإمارات. ولا شك أن أمامها، الكثير مما يجب القيام به، لتجاوز الهوة التقنية. ستكون العبرة لمن يتكيف، ولمن يستبق!