في مرحلة من مراحل تطور العقيدة القتالية عالمياً في العصور الحديثة وتحديداً قبل الحرب العالمية الأولى، تفوقت نظرية الجندي (ليدل هارت) الذي كان مع رفاقه غذاء للحروب التقليدية، على جهابذة السياسيين والقادة العسكريين. فالجندي (هارت) جسد أيقونة المحارب الذكي في كل زمان ومكان، ذلك الذي أراد دائماً كسب السلام ولم يسع إلى الانتصار في مئات الحروب أو المعارك.
لكن ذلك لم يدم طويلاً، إذ دخل العالم حديثاً، بناءً على نظريات عسكرية ساذجة غير مواكبة لتطور الإنسان عاطفياً ونفسياً وفكرياً، ضمن مرحلة العقائد القتالية المتناحرة في ما بينها، التي صارت تغذي دوامة القتال المستمر الذي يشعر إنسان الحداثة في بعض الأحيان أنه لن ينتهي منها أبداً.
مرحلة الحروب الميكانيكية
مع دخول الجندي (هارت) ورفاقه في مرحلة الحروب الميكانيكية، واحتمائهم ببعض الأسلحة المتطورة، تغيرت عقيدة القتال لدى بعض الجنود ذهنياً بشكل كامل. وأصبح الاقتراب غير المباشر من الخصم مركزاً جديداً لعقيدة القتال الحديثة، لذلك عاد (جون رامبو) وفق فيلم (رامبو أول الدم 1982) إلى منزله ومجتمعه سالماً بعد مشاركة ملحمية في حرب بلاده ضد المقاتل السوفياتي المتمرس، خاض خلالها قتالاً دموياً في عمق أراضي فيتنام، لكن عودته لم تخل من منغصات، فالمجتمع وفق الفيلم "يرفضه". مع ذلك استمر عرض (رامبو) حتى عام 2019، ليرصد العمل الذي قاربت عائداته المالية المليار دولار، أهم ملابسات وتطورات العقيدة القتالية الحديثة عموماً والأميركية خصوصاً، التي تستمر تجلياتها المعقدة في التفاعل حتى لحظتنا الراهنة.
أول الدم
بالنسبة إلى الجندي قديماً (قبل زمن رامبو) كانت الحروب مجرد ظاهرة اجتماعية طبيعية، غير معلومة النتائج، لأن مصير الجندي فيها كان مجهولا أيضاً. في تلك المرحلة تجلت عبقرية العقيدة القتالية التي كانت في أبسط أطوارها. فالحوار النفسي الذي يدور في كواليس (رامبو) لم يكن موجوداً وقتها في الواقع.
وتمكنت العقيدة القتالية حينها دون مساعدة الأطباء النفسيين من ضبط إيقاع هذا الصراع الداخلي من خلال طرق عدة، منها إقناع الجندي بدور البطولة أو بلوغه مرحلة الشهادة وفق بعض العقائد القتالية في بعض المجتمعات، لذلك لا يعدو الحوار النفسي حول تأقلم المحارب مع المجتمع بعد عودته من ساحة القتال في (أول الدم) كونه نوعاً من الترف الفكري الذي لم يتمتع به الجندي قديماً.
مجتمع أكثر رفاهية
تعبر مفارقة عودة الجندي الأسطوري (رامبو) إلى المجتمعات الحديثة عن اختلاف جوهري طرأ على عقيدة القتال بعد الحرب العالمية الثانية تحديداً، إذ وصلت تلك المجتمعات إلى حالة من الرفاهية يصعب معها التعايش مع شخص حولته الحرب إلى "سفاح" حتى ولو كان جندياً نظامياً سابقاً، إذ أدركت المجتمعات الحديثة خطورة التبعات التي تفرضها النزاعات الدموية في زمن القوة النووية التي تتحلى بها بعض الدول دون غيرها. وتعمق ذلك الشعور عندما وصلت الحرب إلى عمق المجتمع من خلال بعض الهجمات الإرهابية التي غيرت كل مفاهيم الحرب والسلام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نظرياً تمكنت الدول المتقدمة عسكرياً في العصر الحديث من تحقيق الانتصارات السريعة من خلال القوة المدمرة للآلة، لكنها لم تتمكن عملياً من تحقيق الأمن الدائم لمجتمعاتها، بمعنى أن عقيدتها القتالية المتطورة التي اعتمدت على الترسانة الحربية والسلاح والتدريب الفني كسبت الحرب، حرفياً وليس مجازياً. فالحروب التي تنتهي بالنصر المؤكد الذي تحققه في ساحة المعركة لا تنتج إلا مزيداً من المعارك الجانبية التي يعانيها المجتمع لاحقاً من خلال حروب العصابات والإرهاب وغيرها من التسميات.
نظرة تاريخية
يؤكد خبراء العلوم العسكرية أن وصول بعض الدول إلى مرحلة متقدمة من التسلح، بخاصة في ما يتعلق بالأسلحة غير التقليدية والترسانة النووية، غير كل مبادئ العقيدة القتالية الإنسانية بشكل جذري. وحصل هذا التغيير تحديداً عام 1922، إذ قرر الجندي البريطاني (ليدل هارت) الذي عانى واقعياً ويلات الحرب العالمية الأولى، أن يروج لعقيدة قتالية حديثة ودون ذلك في كتابه "الاستراتيجية وتاريخها في العالم" بناءً على فكرة الحروب الميكانيكية التي استوحاها من فكرة الحروب المغولية زمن (جنكيز خان).
وتهدف استراتيجية (هارت) إلى تحقيق النصر العسكري الذي يضمن السلم لاحقاً، والذي يتحقق من خلال سلاحين ميكانيكيين رئيسين هما الدبابة والطائرة وفق مبدأ الحركة والقوة معاً. وركز الجندي السابق في الوقت ذاته على رفض النصر السريع الحاسم الذي يوقع حصيلة قتلى عالية جداً، حتى لو جلب سلاماً سريعاً، لأنه سينتج حروباً جديدة قوامها حروب العصابات.
إحصاءات حديثة
هاجم هارت حروب نابليون وما نتج من الفكر الشمولي قديماً، بما في ذلك الفكر النازي بكل أطيافه قديماً وحديثاً، أو أية نظريات قتالية تقوم على فكرة الاشتباك المباشر، لكن نظريته لم تصمد أمام تطور الآلة أكثر من الإنسان لاحقاً، فأصبحت فكرته القتالية أساساً لحروب العصابات والجماعات المتطرفة، التي تتجنب المواجهة المباشرة مع الدول القوية.
وتؤكد إحصاءات الأمم المتحدة أخيراً التي ربطت بين تغير عقيدة القتال وانتقالنا إلى عصر الحروب المدمرة والسريعة اتساع دائرة الحروب التقليدية خلال القرن الـ20 وليس انحسارها، إذ شهد المسرح العالمي بعد الحرب العالمية الثانية 172 صراعاً مسلحا دار 24 منها في أربع قارات في اللحظة ذاتها.