تحت قيادة الملك ليونيداس وحتى الرمق الأخير، قاتل 300 محارب يوناني من مدينة إسبرطة قوة غازية فارسية مكونة من 300 ألف جندي، قادهم إحشبروش الأول (815-465 ق. م) لتأديب هؤلاء الثائرين.
لم تنجح هذه الفئة القليلة في المقاومة للنهاية، وفق الفيلم الأميركي "ثري هندرد 300" عن معركة "تروموبيل" للمخرج زاك سنايدر الذي صدر الجزء الأول منه عام 2006، وانتهى الأمر بإبادة هؤلاء المحاربين الشجعان.
بعد أعوام قليلة أعاد اليونانيون ترتيب صفوفهم، وتحالفت إسبرطة مع أثينا واستدرجوا الفرس إلى معركة "سلاميسي" البحرية التي انتهت لصالح اليونان على رغم ضخامة الأسطول الفارسي والتفوق العددي الكبير عليهم، وبذلك تحولت الفكرة الرومانسية إلى نظرية عسكرية واقعية تناقلتها مختلف الحضارات تحت تسميات حربية عدة.
خلف القائد الملهم
احتوى "فن الحرب"، وهو كتاب شهير للجنرال الصيني سون تزو (600 ق. م)، على 13 فصلاً وما يقرب من 6 آلاف مقولة حربية سميت وقتها بخصائص الحرب القديمة. وترجم الكتاب في أوروبا عام 1850 إلى اللغتين الفرنسية والإنجليزية.
بعد هذا العمل، الذي يقال إنه حمل بذور حروب العصابات وأثر في نابليون والألمان وفي العقيدة القتالية الأميركية المطبقة في حرب الكويت عام 1990، ترسخت نظرية حروب العصابات على يد الجنرال الروماني فابيوس ماكسيموس (257-203 ق. م)، الذي يعد عراب فكرة حروب الاستنزاف القديمة التي تقوم على نظرية القائد الملهم الذي ينتصر بقليل من العتاد والجنود على أعتى القوى العسكرية في زمنه.
ظلت نظريات الزعماء والقادة الملهمين مطبقة أثناء الحروب حتى القرن الـ16 الميلادي، وكان أداؤهم الحربي بمثابة فنون ارتجالية اشتقت منها القواعد العسكرية لاحقاً، وتحول بعضها بعد تجربتها في أرض المعركة إلى نظم عسكرية تعتمدها الجيوش النظامية، إلى أن ظهر علم اشتقاق نظريات القتال من المعارك التاريخية الكبرى، وذلك في زمن النهضة الأوروبية (1700-1800) على يد نيكولا ميكيافيللي، الذي أنهى كثيراً من النظريات الحربية الأسطورية القديمة، وأحال فن الحروب إلى نظريات علمية بحتة ظهرت نتائجها في مختلف حروب القرن الـ20.
على أعتاب النظرية
أكدت مصادر علمية على مواقع عسكرية متخصصة أن كتاب "فن الحرب" يشتمل على المسائل التي أحدثت تغيراً جذرياً في النظم والتسليح أو الفكر العسكري، والتي انتصر بموجبها جيش قوامه 30 ألف جندي زمن مملكة تشي - وفق الكتاب - بقيادة القائد الصيني هوو لوو، على جيش آخر قوامه 200 ألف جندي بسبب افتقار العدو إلى التنظيم والإدارة. وأظهرت مثل هذه المواجهات غير المتكافئة في عصور ما قبل الميلاد أن إدارة الحروب عملية ديناميكية تسير في حركة ذاتية متطورة باستمرار من البسيط إلى المعقد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نجح منهج ميكيافللي في تغيير صورة الحروب المعاصرة، لأنه أول منهج عسكري ربط مجريات الحروب بتطور الإنتاج والبناء الاجتماعي والسياسي للدولة. مع ذلك استمرت حروب الفئة القليلة التي تغلب فئة كبيرة، والتي عبرت عنها حضارات أخرى بتسمية "حروب العصابات"، في قلب موازين النظريات العسكرية، حتى بعد دخولنا زمن الحروب المعتمدة على العلم.
وعلى رغم تحول هذه النظرية الارتجالية إلى عقيدة قتالية لا يمكن تجاهلها فإنها بقيت نظرية يتيمة، بمعنى أنها غير معترف بها سياسياً، خصوصاً من الدول المتفوقة عسكرياً، لأن الحركات الثائرة تطبقها في كل مكان وزمان، على رغم أن بعض الدول العظمى مثل الإمبراطورية الرومانية قديماً طبقت هذه النظرية، وخصوصاً أثناء مرور الجيوش النظامية بحال من الوهن أو الضعف الشديد، وكان أشهر من طبق هذه النظرية القائد البيزنطي بيليزير (494-565 م)، الذي سيطر بقوة قليلة من الجنود - مقارنة بأعداد خصومه - على كامل أفريقيا وإيطاليا ومناطق من إسبانيا.
درس هانيبال المتجدد
يعد الجنرال الروماني فابيوس ماكسيموس (275-203 ق. م) واضع نظرية حروب العصابات الشهيرة الحقيقي، والتي هزم بها القائد القرطاجي الأسطوري هانيبال، إذ سميت استراتيجيته الحربية التي تقوم على إنهاك الخصم ومماطلته واستنزافه تمهيداً للإجهاز عليه لاحقاً باسم "استراتيجية فابيان". وظهر أول تطبيقاتها الحديثة في حروب الاستقلال الإسبانية في القرن الـ19 الميلادي من خلال المقاومة الشعبية ضد الجيوش الفرنسية بقيادة نابليون.
كما ظهرت الحروب الأهلية الأميركية بين عامي 1861 و1865، التي نتج عنها قواعد عسكرية جديدة، منها نظرية إجهاد الجيوش، إضافة إلى تطبيق آليات حربية قديمة معها مثل نظرية "الإفناء"، والتي تستخدم لبث الرعب في صفوف الخصم، ونظرية "خفة الحركة" الشهيرة التي قهرت بها قوى صغيرة كثيراً من الجيوش النظامية لدول عظمى. ويذكر أن مصطلح "حرب العصابات" ظهر في الغرب عام 1809، وكانت له مرادفات عدة، منها مصطلح "حروب المدغرة" أو (غوريلا وور فير)، والذي عرف أيضاً بـ"حروب الشوارع".
ظهرت تسمية "الفئة القليلة" ضمن سياق حربي وفكري خاص اختلف بدوره عن المفهوم الغربي للقتال، وذلك ضمن مرحلة الحروب الإسلامية التي تميزت بإدخال قواعد حربية جديدة، وأهمها الغزوات والبعثات وتعزيز النجاح وليس الفشل والمناورة بالجهود وتركيزها ضد مركز ثقل العدو. وكان أول تطبيق لهذه النظرية في معركة بدر الكبرى، التي سميت أيضاً بـ"بدر القتال" و"يوم الفرقان"، إذ طبقت قواعد عسكرية تعتمد على الإيمان لرفع الروح المعنوية، والعمليات التشتيتية، والضربات المسبقة. وظهرت معركة بدر سينمائياً في فيلم الرسالة بنسخته العربية عام 1976 للمخرج مصطفى العقاد، كما ظهرت أحداث المعركة في مسلسل "عمر بن الخطاب" عام 2012.