كيف تحل مشكلة مثل كوريا الشمالية؟

منذ 8 أشهر 93

منذ نهاية الحرب الباردة، يبدو أن كل صيغة ممكنة؛ من التهديد بالحرب إلى الوعد بالسلام، قد جرى تجريبها في التعامل مع كوريا الشمالية. ومع ذلك، ورغم خضوعها لعقوبات أكثر من أي دولة أخرى، تمكنت كوريا الشمالية من تطوير ترسانة نووية تقدر بنحو 50 رأساً حربياً وصواريخ متطورة يمكنها، من الناحية النظرية، توصيل تلك الأسلحة إلى أهداف داخل الولايات المتحدة.

من جهتها، اتخذت إدارة الرئيس بايدن نهجاً أكثر تناقضاً بشكل ملحوظ تجاه كوريا الشمالية، مقارنة بسلفه دونالد ترمب، الذي كان يهاجم زعيمها كيم جونغ أون أحياناً، ويتودد إليه في أحيان أخرى. إلا أن ذلك لا ينبغي أن يثبطنا عن محاولة التوصل إلى سبل جريئة لنزع السلاح النووي لدى كوريا الشمالية، أو تحسين حياة شعبها أو تقليل مخاطر الصراع، حتى لو كان ذلك يعني اتخاذ خيارات غير مستساغة. في الواقع على العكس من ذلك، ثمة حاجة ملحة الآن لتحقيق ذلك، أكثر مما كانت عليه منذ سنوات.

ومثلما حذر كل من المحلل روبرت كارلين والعالم النووي سيغفريد هيكر، وهما من المتابعين المخضرمين لشؤون كوريا الشمالية، في يناير (كانون الثاني)، فقد تحول كيم بعيداً عن السعي إلى إقامة علاقات أفضل مع الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، وأصبح أقرب إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بل وربما يستعد للحرب. وبعد أيام قليلة من إصدار الخبيرين تحذيرهما، تنصل كيم من الهدف الذي طال انتظاره والمتمثل في المصالحة السلمية بين الكوريتين، ودعا إلى «كامل احتلال وإخضاع واستعادة» الجنوب حال اندلاع حرب.

وقد يبدو مجافياً للمنطق، بل حتى انتحاراً صريحاً، أن يسعى كيم إلى الحرب، لكن لا ينبغي لنا أن نغفل أن الكثيرين في أوكرانيا سبق أن شككوا في أن بوتين سيقدم على شن غزو كامل ضد بلادهم، حتى بدأت الصواريخ تنهال عليهم في فبراير (شباط) 2022. وبالمثل، فاجأت جماعة «حماس» إسرائيل تماماً في أكتوبر (تشرين الأول). وخلف كلا الصراعين خسائر بشرية مدمرة، بجانب فرضهما عبئاً ثقيلاً على قدرة أميركا على إدارة الأزمات المتزامنة. والمؤكد أن شعب الكوريتين ليس بحاجة إلى الحرب، وكذلك الولايات المتحدة.

جاءت بداية الحرب الكورية على يد جد كيم، بينما كان والده بارعاً في ممارسة سياسة حافة الهاوية. والآن، من الواضح أن كيم يسير على النهج ذاته، ويمكنه التحريض على صراع محدود من خلال، مثلاً، شن هجوم برمائي على الجزر التي تسيطر عليها كوريا الجنوبية في المياه المتنازع عليها بالبحر الأصفر، على بعد أقل من 15 ميلاً من ساحل كوريا الشمالية.

جدير بالذكر أن كوريا الشمالية قصفت بالفعل إحدى الجزر عام 2010، ما أسفر عن مقتل جنديين كوريين جنوبيين واثنين من المدنيين، وتسبب في تبادل قصف بالمدفعية مع الجنوب. وقبل شهرين فقط، أطلقت بيونغ يانغ أكثر من 200 قذيفة على المياه القريبة من الجزر.

وربما يعتقد كيم أنه قادر على إدارة تصعيد مثل هذه الأزمة - عبر التهديد بشن هجوم صاروخي أو حتى نووي لردع أي محاولة انتقام، بل وربما الاستيلاء على الجزر، ثم استغلال الأمر بوصفه نصراً دعائياً كبيراً، والمطالبة بإعادة ترسيم الحدود البحرية، وغيرها من التنازلات الأمنية.

وإذا حدث أي شيء من هذا القبيل، فسيتعين على بايدن أن يشرح كيف اندلعت حرب أخرى في عهده أمام الناخبين الأميركيين المنهكين. كما سيوفر ذلك لترمب فرصة للترويج لاستعداده للتعاون مع كيم.

الملاحظ أن حالة انعدام الثقة المتبادل بين واشنطن وبيونغ يانغ تعمقت في عهد بايدن، ما يجعل من غير المحتمل إنجاز اختراق في العلاقات بين الجانبين. ومع ذلك، هناك ديناميكيتان لا تحظيان بالتقدير الكافي فيما يتعلق بكوريا الشمالية، حيث يمكن للولايات المتحدة إيجاد نفوذ لها.

ترتبط الديناميكية الأولى بالصين. رغم قشرة القرابة الشيوعية، يعدّ كيم والرئيس الصيني شي جينبينغ قوميان في أعماقهما. وعليه، يراقب كل منهما الآخر بحذر. وقد سبقت لي زيارة عاصمتي البلدين عدة مرات، والتقيت عدداً من المسؤولين وصانعي السياسات. وبدا لي انعدام الثقة المتبادل والعميق بين الجانبين واضحاً.

من ناحية، ينظر كثير من الصينيين بازدراء تجاه جارتهم كوريا الشمالية، باعتبارها دولة متخلفة، وينزعجون من سلوكها المزعزع للاستقرار.

في المقابل، يشعر كثير من الكوريين الشماليين بالاستياء من نجاح الصين ويقاومون نفوذها. ويمكن لبيونغ يانغ أن تسمح بمزيد من الاستثمارات الصينية، لكنها لا تريد أن تكون مديونة لرؤوس الأموال الصينية.

ويبدو أن كيم يسعد باختيار توقيت الاستفزازات لإحراج بكين بأقصى درجة ممكنة، بما في ذلك اختبارات الأسلحة - المحظورة بموجب عقوبات الأمم المتحدة - في الفترة التي سبقت أحداثاً سياسية صينية حساسة.

وينبغي الانتباه هنا إلى أن كيم انتظر ست سنوات بعد أن أصبح الزعيم الأول عام 2011 قبل القيام برحلة إلى بكين للقاء شي. وعندما ظهر فيروس كورونا، كانت كوريا الشمالية من بين أوائل الدول التي أغلقت حدودها مع الصين، وتراجعت العلاقات بين البلدين خلال فترة السنوات الثلاث تقريباً التي أغلقت خلالها الحدود. والعام الماضي، وقع اختيار كيم على بوتين، وليس شي، لعقد قمته الأولى بعد انتهاء الجائحة، وتجاوز الصين للسفر إلى أقصى شرق روسيا. وعليه، فإن انعدام ثقة كيم تجاه الصين، ينطوي على فرصة للولايات المتحدة.

تتمثل الديناميكية الثانية في طموحات كيم الاقتصادية، ففي كل خطاب يذكر الأسلحة النووية، يتحدث بإسهاب أكبر عن الحالة المتردية لاقتصاد بلاده، بينما يعد بتحسينه. وكان احتمال رفع العقوبات الاقتصادية التي تقودها الولايات المتحدة ما أقنعه بالقيام برحلة بالقطار لمدة 60 ساعة من بيونغ يانغ إلى هانوي للقاء الرئيس ترمب آنذاك في قمتهما الثانية عام 2019. وقد عرض كيم صراحة تفكيك المجمع الرئيسي للأسلحة النووية، لكن ترمب طالب كوريا الشمالية كذلك بتسليم جميع أسلحتها والمواد والمنشآت النووية، الأمر الذي أسفر عن انهيار المحادثات نهاية الأمر. وبعد ذلك، بدا أن ترمب فقد الاهتمام بالتعامل مع كيم، وبذلك أهدرت فرصة نادرة، ما ترك شعوراً بالمرارة داخل كيم.

بوجه عام، فإن المفتاح لأي مبادرة جديدة تجاه كوريا الشمالية يكمن في كيفية تأطيرها. ربما لن يرغب البيت الأبيض في سماع ذلك، لكن الحقيقة تبقى أن النجاح سيعتمد على الأرجح على وضع بايدن بصمته على كل هذه الجهود، من خلال، على سبيل المثال، ترشيح مبعوث جديد للبيت الأبيض بمكانة شخص مثل جون كيري، والإعلان عن خطة جديدة تماماً تجاه كوريا الشمالية، وعقد مراجعة استخباراتية بخصوصها، خصوصاً أن الرئيس وحده من يستطيع الوصول إلى كيم، وكيم وحده من يستطيع تغيير سياسة كوريا الشمالية.

سيتعين على بايدن كذلك استخدام لغة مختلفة تماماً في صياغة مبادرة جديدة تجاه كوريا الشمالية، ومحاولة تحسين العلاقات معها - وليس لنزع السلاح النووي لدولة أصدرت عام 2022، قانوناً تعلن عبره عن نفسها بوصفها دولة تمتلك أسلحة نووية. بالتأكيد سيكون ذلك بمثابة حبة دواء مريرة يجب على أميركا أن تبتلعها، خصوصاً أن نزع السلاح النووي كان مبدأً توجيهياً للسياسة الأميركية تجاه كوريا الشمالية لعقود من الزمن. إلا أنه من غير الواقعي التظاهر بأن بيونغ يانغ ستتخلى عن أسلحتها النووية في أي وقت قريب. ومن الممكن أن يبقى نزع السلاح النووي هدفاً طويل الأمد، لكنه سيظل مستحيلاً إذا لم يتحدث الجانبان.

* أستاذ التاريخ بجامعة يونسي في سيول

وباحث أميركي معني بشؤون شرق آسيا

* خدمة «نيويورك تايمز»