ملخص
تجسد العاصمة الكوبية، هافانا، التناقض بين جمال العمارة الاستعمارية وتحديات الحياة اليومية، إذ تعكس أجواءها المتنوعة وموسيقاها الراقصة قصة بلد يكافح للبقاء في ظل التغيرات السياسية والاقتصادية، بينما تسعى السياحة، رغم العقبات، إلى إنقاذ الجزيرة من أزماتها المستمرة.
أفترض أنكم تعرفون مدينة هافانا حق المعرفة، حتى ولو لم تطأها أقدامكم قط، لتروا طابعها الحضري الريفي المذهل. تجسد العاصمة الكوبية الصورة النمطية المعروفة عنها، فهي مدينة تعرض بقايا العمارة الاستعمارية الإسبانية، من مبان متصدعة ومتهالكة بصورة جميلة، تظللها درجات الباستيل الزهري والكريمي التي تتناثر عليها ألوان الأخضر الليموني والبني، وتحت شمسها الكاريبية الحارقة تدور في الخلفية أصوات هدير سيارات شيفروليه من طراز 1955 وموسيقى الرومبا التي تتصاعد بمرح من النوافذ المفتوحة.
وصلت للمرة الأولى إلى أكبر مدينة في منطقة البحر الكاريبي في يناير (كانون الثاني) 1989 لإعداد أول دليل سياحي مستقل لكوبا، وفي ذلك العام كان فيدل كاسترو مستمتعاً، كما فعل على مدى ثلاثة عقود، بألق الثورة المجيدة.، وقد صادف يوم رأس السنة الجديدة مرور 30 عاماً منذ أن أطاح بالطاغية فولغينسيو باتيستا وأحكم سيطرته على الجزيرة.
من الناحية الاقتصادية بالكاد كانت كوبا تتدبر أمورها، فعلى رغم الحصار الاقتصادي الأميركي عليها وسياسة التجميع "collectivization" غير الملائمة التي اعتمدها الراحل تشي جيفارا [عملية دمج الحيازات الفردية للأراضي والمزارع في مزارع جماعية أو مؤسسات تسيطر عليها الدولة بهدف زيادة الإنتاج الزراعي والكفاءة]، سعت موسكو إلى ضمان استمرار توأمها العقائدي بالوقوف على قدميه، وفي صفقة سلع أحادية الجانب لمصلحة السوفيات، باع الاتحاد السوفياتي النفط إلى الجزيرة بسعر أعلى كثيراً من سعر السوق، واشترى السكر من كوبا بأسعار مضخمة ومبالغ فيها، وكان السكان محصورين إلى حد كبير داخل الجزيرة ولكن كان بوسعهم دائماً أن يحتسوا زجاجة من مشروب هافانا كلوب، والتوجه إلى الشاطئ في سيارة ضخمة مصنوعة في ديترويت ما قبل الثورة، تمسكها اللحامات الموقتة والخيوط والعزيمة، كما هو الحال في كوبا نفسها.
في تلك المشهدية كان 1989 العام الذي بدأت فيه سحب العاصفة تتشكل فوق كوبا، فسقوط جدار برلين الذي حدث قبل 35 عاماً في مثل هذا الشهر، تسبب ببدء تأثير الدومينو الذي انتهى بانهيار الاتحاد السوفياتي عام1991.
بحلول عام 1994 انهار الاقتصاد الكوبي وسطر ذلك بداية "مرحلة خاصة في زمن السلم"، وهو مصطلح أطلقه فيدل كاسترو على سياسة التقشف الشديد، وفي أواخر عام 1994 قدم المذيع أندي كيرشو برنامجاً إذاعياً على راديو "بي بي سي" بعنوان "عيد الميلاد الأخير لكاسترو؟" Castro’s Last Christmas?
بيد أن كاسترو كان يملك خطة ماكرة، فقد أعلن بأن "السياحة وحدها قادرة على إنقاذ كوبا" وهذا ما حصل فعلاً، وأسهم في بقاء الرئيس في سدة الرئاسة 14 عاماً إضافياً.
في عام 1994 وصلت أولى الرحلات الجوية المستأجرة (charter flights) من مطار غاتويك في لندن إلى مدينة هولغوين شرق البلاد، وقبل ذلك كانت الرحلات تأتي عبر طائرات "إليوشن-62" القديمة التابعة للخطوط الجوية الكوبية (كوبانا) من مطار ستانستيد.
وبعد أن تمكن بضعة آلاف من المسافرين البريطانيين من زيارة كوبا عام 1989، بلغت الأعداد السنوية بحلول نهاية القرن مئات الآلاف، وحطت الطائرات في عدد من المطارات التي حُول معظمها بسرعة قياسية من قواعد عسكرية إلى مطارات مدنية، ونُقل المسافرون بالحافلات عبر الريف إلى منتجعات شاملة الخدمات اُستبعد الكوبيون العاديون منها.
كان معظم الزوار راضين بالبقاء في هذا المحيط السياحي أو الدفع بالعملة الصعبة من أجل القيام برحلة إلى هافانا أو مدينة سانتياغو الشرقية، لكن سرعان ما أصبح السفر المستقل أسهل بصورة تدريجية بعد أن قام منظمو الرحلات السياحية المتخصصون بتنظيم رحلات في كافة أرجاء أكبر جزيرة في منطقة البحر الكاريبي، مما يجعل من السهل مقابلة المواطنين الذين يجعلون كوبا مميزة للغاية.
عندما اُنتخب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة ازدهر قطاع السياحة وبدأت القيود التي فرضتها واشنطن على العطلات إلى الجزيرة تتهاوى وتسقط، وأطلقت شركات الطيران شبكات مزدحمة من الرحلات الجوية عبر مضيق فلوريدا لتمكين "التواصل بين الناس" من الازدهار، كما وصفها البيت الأبيض.
أما دونالد ترمب فقد عكس كثيراً من هذا التقارب عندما تولى سدة الرئاسة، وبلغت هذه السياسة ذروتها خلال الأيام الأخيرة من ولايته في يناير (كانون الثاني) 2021، بإضافة كوبا إلى القائمة الأميركية "للدول الراعية للإرهاب"، إضافة إلى إيران وكوريا الشمالية.
ومن بين الآثار الرئيسة المترتبة على ذلك أن أي مسافر بريطاني زار كوبا منذ ذلك التاريخ لا يستطيع الحصول على تصريح من طريق النظام الإلكتروني لتصاريح السفر الأميركي (Esta) للسفر إلى الولايات المتحدة، وأصبح يحتاج بدلاً من ذلك إلى تأشيرة كاملة، وهو ما يتطلب شهوراً طويلة من الجهد والمال.
وبحلول الوقت الذي دخلت فيه هذه القاعدة الصارمة حيز التنفيذ، كانت جائحة كورونا قد دمرت بالفعل قطاع السياحة الكوبية الذي فشل في التعافي، وفي هذا العام لم يتبق سوى رحلة طيران مستأجرة أسبوعية واحدة تقلع من بريطانيا من مانشستر إلى المنتجع الرئيس فاراديرو، ومن ثم أوقفت شركة "توي" Tui (أكبر الشركات المتخصصة في الطيران الخاص) تلك الرحلة أيضاً مما أدى إلى فصل كوبا عن المملكة المتحدة للمرة الأولى منذ ثلاثة عقود، ويبدو أننا نشهد دوامة من التراجع والانحدار، إذ إن عدد السكان يتقلص في ظل سعي المواطنين إلى البحث عن حياة أفضل في الخارج، بعد أن تخلى النظام في هافانا منذ فترة طويلة عن محاولة منع الكوبيين من الفرار.
خلال الشهر الماضي أدى انقطاع التيار الكهربائي في جميع أنحاء الجزيرة إلى تفاقم معاناة السكان الباقين والبالغ عددهم 10 ملايين نسمة، ولكن في عالم يزداد غرابة فقد يؤدي تغيير آخر في هوية ساكن البيت الأبيض إلى إعادة ضبط العلاقات والبدء في إصلاح الضرر، مما يسمح للأميركيين بأن يعيشوا جمال الجزيرة وأجواءها وبعض غضبها العرضي.
لعل السياحة قادرة حتماً على إنقاذ كوبا، وفي غضون ذلك أحثكم على زيارة الجزيرة من خلال اتباع رحلة طيران غير مباشرة عبر باريس أو مدريد، استمتعوا بهافانا واقصدوا الشاطئ والتقوا الشعب الكوبي، فتستحقون حتماً، أنتم وهم، أن تغتنوا بهذه التجربة.
سايمون كالدر، المعروف أيضاً "بالرجل الذي يسافر على نفقته" The Man Who Pays His Way هو أيضاً المؤلف المشارك مع إميلي هاتشويل لكتاب "دليل المسافر: كوبا" Traveller’s Survival Kit: Cuba، كما أنه مراسل شؤون السفر في "اندبندنت" منذ عام 1994، وفي عاموده الأسبوعي الخاص يكتشف مسألة أساسية مرتبطة بالسفر وأبرز النقاط التي تهم القراء.