كان بمثابة صاعقة نزلت قبل أيام على أدبيات التخاطب بين رموز العمل السياسي في لبنان؛ كون أطراف هذا التخاطب يشغلون المكانات السياسية والدينية والمجتمعية. ولقد أظهرت أنواع التخاطب بين هؤلاء الرموز أن كلاً منهم ليس بالحرص الكافي على إخراج الوطن من الهوة السحيقة التي بات عليها معيشياً ووطنياً، وإنما الذي يعنيه مقامه، حتى إذا كان على حساب كرامات الآخرين.
وعندما تكون هذه أدبيات التخاطب، وبالصوت الأعلى، مقروءاً في صحيفة أو مبثوثاً عبْر الأثير أو الشاشة أو مواقع التواصل، لا يعود مستغرباً أن الأزمة التي يعيشها لبنان طالت وتعقدت نتيجة مواقف تتسم بعض كلماتها بالتجريح، وأن كثرة التلاوم المتبادل؛ حيث هذا يلوم ذاك وأولئك يلومون هذا، لا تجدي نفعاً. كما أن كثرة التذكير، في مناسبات خطابية أو من خلال تصريحات، بفائض القوة، تتسبب بتباعد المشاعر الوطنية.
ونجد أنفسنا نرى أنه لولا الكلام الذي يقال بعضه أسبوعياً وبعضه الآخر في مناسبات من المرجعيات الروحية، لكان الميدان السياسي أشبه بحلقات مصارعة كلامية. ومع أن ما نسمعه من رموز المرجعيات الروحية يتسم بالنصح والحكمة والقول اللين، فإن هذه المرجعيات باتت، وقد تجاوز التعطيل المتعمد من جانب رموز العمل السياسي والحزبي حده، ترى، على ما تجوز قراءة النيات، اتخاذ وقفة تتجاوز النصح إلى الحزم، بل وما هو أكثر من ذلك؛ أي بما يجوز افتراضه تنعقد قمة روحية جامعة حاسمة تنتهي بما يشبه البلاغ رقم واحد في ظاهرة الانقلابات العسكرية، ويستتبع هذا البلاغ الحامل تواقيع المرجعيات، ما دام يطالب بتأدية الواجب وانتخاب الرئيس الجديد للجمهورية، استيلاد رئيس لها.
هذا مع الأخذ في الاعتبار أن بعض العبارات جاءت حازمة، مثل تلك التي صدرت من هذه المرجعيات على مدى أشهر سبقت خلو الرئاسة من شاغل، ثم بعد أن انصرف الرئيس الجنرال ميشال عون خاسراً التطلع إلى تمديد لرئاسته يحقق فيها مبتغاه بترئيس صهره الذي استمر يعيش 4 سنوات رئاسية في حلم أنه هو مَن سيزكيه «حزب الله» وليس سليمان فرنجية. ومن العبارات تلك قول البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في عظة قداس يوم الأحد، 19 فبراير (شباط) 2023، وبما يمكن اعتبار الكلمات بمثابة مفردات بلاغ روحي رقم واحد: «أيها المسؤولون السياسيون والنواب والنافذون والمعطلون بوجه أو بآخر؛ لقد حولتم عرس لبنان وشعبه وجمال طبيعته وغنى موارده إلى مأتم كبير، ووشحتموه برداء أسود من الفقر والجوع والحرمان والتهجير؛ تهجرونه من وطنه، وتفتحون أبوابه لمليونين وثلاثمائة ألف نازح سوري؛ ما بدا يفوق نصف الشعب اللبناني. ترفضون أي نصيحة من الدول الصديقة والحريصة على استقرار لبنان واستعادة قواه وكل دعوة ملحة لانتخاب رئيس للجمهورية، فتدعون ذلك تدخلاً ومساً بكرامتكم. إنهم يريدون حماية لبنان منكم؛ من كل عدو له يأتيه من الداخل، وانتشال الشعب من براثن أنانيتكم وكبريائكم ومشاريعكم الهدامة؛ فلا لبنان خاصتكم، بل خاصة شعبه، ولا الشعب غنيمة بين أيديكم، بل غنى لوطنه لبنان؛ فارفعوا أيديكم عن لبنان وشعبه. هذه الصرخة نستودعها رحمة الله... الإله العادل...».
ويندرج الكلام الجديد من حيث التحذير والخشية مع لاءات أطلقها البطريرك الراعي قبل بضعة أشهر (قداس يوم الأحد 11 سبتمبر/ أيلول 2022، في مقره الصيفي - الديمان)، وبدت من حيث الضغط النفسي الموجب لإعلانها بالصوت الأعلى كثيرة الشبه بلاءات القمة العربية الاستثنائية في الخرطوم (أواخر سبتمبر 1967). وأما اللاءات الراعية التي انتهت صرخة في وادٍ عكس لاءات القمة التي أبقت الوضع السياسي العربي على درجة من التماسك، فإنها «لا نسكت بل نرفض شل البلاد. لا نسكت بل نرفض تعطيل الدستور. لا نسكت بل نرفض استباحة رئاسة الجمهورية. لا نسكت بل نرفض الإجهاز على دولة لبنان وميزاتها ونموذجيتها ورسالتها في هذا الشرق وفي العالم...».
ما يجوز قوله إن الرمز الروحي للطائفة المارونية... طائفة رئيس الجمهورية، جعل من عظات القداديس في معظمها موقفاً سياسياً حازماً، وذلك نتيجة أن سياسيي الطائفة وزعماء أحزابها يغردون على أغصان أشجار حدائق تطلعاتهم الحافلة بكل أنواع ثمرات التحدي، غير هيابين أي حال بات عليها لبنان، التي أوجزها مفتي الجمهورية، الشيخ عبد اللطيف دريان (ومصادفة في اليوم السابق للبلاغ رقم واحد الروحي للبطريرك الراعي)، وبمناسبة ذكرى الإسراء والمعراج، بعبارة: «كل خدمات الدولة الوطنية وميزاتها سقطت في الأعوام الثلاثة الأخيرة. لقد صرنا أعجوبة العالم وفضيحته...». كما مصادفة قول متروبوليت بيروت للروم الأرثوذكس المطران إلياس عودة قبل ذلك: «ما نشهده تنازُع على السُلطة؛ يتبادلون الاتهامات، والكل متهم، والكل بريء».
كما أنه ما يجوز قوله إن سياسيي الطائفة وزعماء أحزابها يطرقون أبواب الصرح البطريركي من أجْل التقاط صورة مع سيد الصرح يوظفونها في أوساط جمهورهم أو تمييزهم بتناول الغداء إلى مائدته، وهذا توظيف مضاف من جانبهم لمكانتهم الانتخابية. وحتى إن حضورهم القداديس موسميّ. وعندما بدأ رمز المرجعية الروحية للطائفة يوجه النصح تلو النصح والتحذير تلو التحذير، فإنهم لم يقفوا إلى جانبه، معتبرين أنه فقط يستهدف بتحذيراته وتنبيهاته من الأعظم الآتي الطيف اللبناني الذي يوالي إيران، وفي الوقت نفسه يعكر العلاقة مع الدول العربية، مع أن مضمون التحذير يشمل رموز الطيف السياسي الماروني الذين في بقاء تحديات بعضهم لبعض، فارتهان بعض آخر لمشاريع لا تقتصر على الاستحقاق الرئاسي، ما يجعل الأزمة تزداد تعقيداً.
وعلى هذا الأساس، فإن مضمون ما حوته مفردات ما يُعتبر البلاغ رقم واحد الروحي، قد ينتهي إما إلى أن يأخذ الطيف السياسي والحزبي الماروني برؤى المرجعية الروحية، فيسلم لبنان، وإما سترفد المرجعية واجباً واضطراراً بلاغها الأول بالبلاغ الرقم الثاني مسمياً التعطيل بمسببه الممانع والمعاند.
عسى ولعل يأخذ النواب المسيحيون (الموارنة بشكل خاص) بما أبدى البطريرك الراعي في عظة قداس لاحق (الأحد 12 مارس/ آذار 2023) «الأمل منهم تأدية يوم رياضة روحية يكون صوماً وصلاة وتوبة ومصالحة...». وقصده أن يكون إفطار هذا اليوم اجتراح معجزة الاتفاق على انتخاب رئيس ينجي الوطن من الحالة غير الكريمة التي يعيشها في دنياه وينجيهم من العقاب الإلهي في آخرتهم. والسلام على مَن اتبع الهدى.