كلنا في الهم «يمن»

منذ 2 أشهر 41

مع أسرته الصغيرة، جاء رجل من أقصى اليمن يسعى إلى التنفيس عن معاناته المريرة لدى بعض أصدقائه المشردين. «هل أتاك حديث حملات اعتقال سلطات الأمر الواقع لمن عدُّوهم (خلايا تجسسية) في مناطق سيطرتها؟». «طبعاً» أجابه مَن استطرد: «ولعلك تذكر، مع مَن قرأ (لعبة الأمم) لمايلز كوبلاند، مسألة اعتماد بقاء سلطات كهذه على إجراءات القمع والإرهاب...».

عقَّب الرجل: «يستوي تأثير هذه الإجراءات على المتهمين وغيرهم ممن توجسوا، عشية ذيوع أخبار الحملة، خيفة الاعتقال والإدانة نتيجة ارتباط سابق مع أي منظمة دولية أو سفارة أجنبية لدى الجمهورية اليمنية. غداة تلك الحملة حدَّثتُ نفسي: لا أخشى شيئا لأنني لم أفعل شيئاً، حتى إذا اعتقلوني فماذا سيصيبني أكثر من أولئك الأبرياء؟ ثم أمضيت يومي».

مضى يحكي أنه «عندما يأتي المساء» يمارس طقوسه؛ مطالعة كتاب أو مشاهدة مقاطع «يوتيوب»، بعد تصفح «التناحر» على صفحات التواصل الاجتماعي، حتى يغلبه نومه فيمتد على فراشه واضعاً تحت عنقه وسادة خاصة، وأخرى بين فخذيه وفق نصيحة أطباء العظام. لكنه ليلتها ساورَهُ هاجسٌ: «عن جحيم المعتقلات، حيث سأنقطع عن العالم وأُحرَم نعمة الوسائد! فضلاً عن وحشة النفس، سأقاسي وأهلي البُعد الذي يخلق قلقاً وألماً للجميع على مصير الجميع؛ ناهيك بالتعذيب والتحقيق بشأن مزاعم وادعاءات باطلة».

دوَّامة نفسية التهمته. تأثر، ورفاق آخرون، فانسحبوا من صفحات التواصل و«غروبات» الـ«واتساب»، فلا هم «يتواتسون (أي يتراسلون عبر تطبيق واتساب)» ولا يتواصلون و«يفسبكون»، لأنهم في الخوف يغرقون.

يغرق بعض اليمنيين وسط أجواءٍ نفسية ملوثة لم يطهِّرها مَطَرٌ جرفت سيولُه دُوراً وأغرقت بشراً في تهامة غرب اليمن، من حجة إلى الحديدة والمحويت، حيث آوت بعض جوامع القرى المتضررين وأسرهم. وفي «صنعاء القديمة» غمر البَرَدُ البيوت الطينية، فتأثرت سُطوحٌ وتهدمت سقوفٌ وتشققت جدرانٌ وتضرر سكان... أعانهم الله على البلاء وعلى إعاقة وصول المساعدات إلى البلاد.

الكوارث الطبيعية تزامنت مع كوارث غير طبيعية افتعلها مَن تولّوا الاعتقالات مبررِّين فعلتهم ببث اعترافات المعتقلين. واصل صاحبنا وصف الحالة: «عقب (حفلات) الاعتقال والاعترافات (المسلوقة) من مهامِّ وظائف عادية، والزج بأسماء ليس لها في عير التآمر ونفير التخابر، بدأنا نتشكك في أنفسنا. أخيراً بتشجيع عددٍ من الزميلات والزملاء، خرجت أعالج نفسيتي المتأزمة».

«من لم يشجعهم أحد على الخروج للعلاج، كيف يعيشون؟ الرجال والنساء على حد سواء». تساؤلٌ أعاده يتحدث عن النساء أولاً... الأشد معاناة داخل المجتمع. الظروف القاسية أزالت الفوارق بين من اضطرت إلى أن تجوع، وبين من لم تضطر لأسبابٍ شتى. أما الرجال فمحكومٌ عليهم باحتمال مشاقِّ الحياة من شح موارد، وانعدام خيارات، وشلل قدرات إلا على مضغ القات، والاحتشاد ضمن الحشود وسط الشوارع والساحات لترديد الشعارات والصرخات بمناسبات متوالية تفرض استقطاع الجباية من مرتبات الموظفين «المدَّخَرَة...!» بل جمعها حتى من طلبة المدارس. أعجب المفارقات هي انضباط الدوام الوظيفي من دون مرتبات... هرباً من الخلافات المنزلية!

لا تنسوا الأطفال الذين يبدون كاليمن بلا مستقبل، لِمَا تُحشى به أدمغتهم من إعلامٍ وتعليم يكرِّسان نهجاً مختلفاً ومتخلفاً عمَّا نشأ عليه الجيل اليمني الأخير من انفتاح وتعايش. ثم تحسروا على المُسِنين وهم ينعون آمالهم...

صور معاناة وهموم من يعيشون داخل اليمن، يتلقاها يمنيون يعانون في الخارج مُجمِعين على: «كلنا في الهم (يمن)... ونحتاج إلى العلاج». العلاج يوفِّره السلام لليمن، هلَا نذهب إليه.