كلفة الجنازات الباهظة تدفع الناس للاستغناء عنها

منذ 11 أشهر 116

وسط انشغال الجميع بالأذواق الموسيقية التي كشف عنها تطبيق "سبوتيفي" في تقرير "سوتيفاي رابد" Spotify Wrapped الأسبوع الماضي، نالت أذواق وتوجهات أخرى وهجاً أخف بكثير، مع أنها أعمق وتحمل عدداً أكبر بكثير من العواقب. وفي التفاصيل، أجرت المؤسسة البحثية الدينية "ثيوس" Theos استطلاعاً شمل 2500 شخص وتناول وجهة نظرهم وسلوكهم حيال الموت، وكشف الاستطلاع المذكور عن أن أكثر من نصفنا لا يرغب في إقامة جنازة عند وفاته.

وشاءت سخرية القدر أن يكون تطبيق "سبوتيفاي" دفعني سابقاً إلى الاعتقاد بأن وضع الجنازات ممتاز. فطوال العام، التقيت بأشخاص يُعدون "مجموعة أغانٍ للجنازة" عبر التطبيق المذكور، حتى إن أعدادهم فاقت التوقعات، وكان كثيرون بينهم في الثلاثينيات من عمرهم - وقد انهمكوا جميعاً، مغتبطين، باختيار أغانٍ [يحبونها] استعداداً لهذا اليوم المصيري.

لكن ماذا لو صح التقرير، وتراجع عدد الجنازات التي ستعزف خلالها ألحان اختارها أشخاص لمراسم دفنهم؟ لحسن الحظ، لا يزال مفهوم الجنازة بعيداً بنظر معظم من هم في الثلاثينيات من عمرهم. لكنني لا أنفك أفكر في كلمات قالها صديق في منتصف الخمسينيات، بينما كنت أستعد لحضور أول جنازة في حياتي: "كن مستعداً، لأنك ستحضر كثيراً منها بعد...". لعل أفكاري سوداوية، لكنني أتمنى أن يكون كلامه صحيحاً وأن يتسنى لي حضور مزيد من الجنازات، وربما جنازته هو أيضاً. وهنا، تكمن الحيلة في تخطي مفهوم "الجنازة" بحد ذاته، والإصرار فقط على أنه عند حصول وفاة، لا بد للناس من أن يجتمعوا ضمن أي سياق أو إطار. وبرأيي، يحصل ذلك أكثر مما نتصور.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وصحيح أن بعض الناس يحتفلون بالزوال البطيء لمفهوم الجنازة، بالنظر إلى كلفها الباهظة اليوم. فعلى رغم تداول كلام عن مبادرة حكومية في هذا المجال، تتضمن مثلاً تفويض مديري جنازة بفرض قائمة أسعار، إلا أن كلف الوفاة ارتفعت خلال الأعوام الأخيرة بنسبة بلغت 3.8 في المئة منذ 2021.

وفي هذا الإطار، كشفت شركة "فريويل" FreeWill للخدمات القانونية في نهاية الحياة عن أن أربعة أشخاص من أصل 10 يجبرون على استدانة المال للإسهام في كلف جنازة أحد أصدقائهم الأعزاء أو أقربائهم. وبالمعدل، تصل كلف ما يعتبر جنازة "تقليدية - بما يشمل الدفن والحفل التأبيني والسهر على الميت و[أكاليل] الزهور وخدمة توصيل الطعام، وغير ذلك من نفقات - إلى 9200 جنيه استرليني (11500 دولار). لذا، لن نشعر بالمفاجأة إن أصبحت مراسم "الحرق المباشر" التي تعتبر أرخص بكثير (تناهز كلفتها 1000 جنيه استرليني أو 1250 دولاراً) أكثر شيوعاً بكثير من ذي قبل. 

وعندما توفي والدي، بقينا مصرين على تجنب أي إضافات سخيفة من شأنها أن ترفع الكلف، وذهبنا مباشرة إلى فحوى الموضوع، فاستغنينا عن المرمدة البالغ سعرها 300 جنيه (375 دولاراً) وعن كيس المرمدة وكلفته 60 جنيهاً (75 دولاراً) وعن النصب التذكاري المذهب وثمنه 10 جنيهات (12.5 دولار). وكل ما اخترناه من المحرقة هو كيس كبير وطويل وثقيل، مصنوع من ورق بني سميك وكثير الطبقات. ومع أن والدي يستحق ما هو أفضل من كيس بطاطا [لدفنه]، كنا مقتنعين تماماً بما فعلناه لأن فكرة شراء هراء باهظ الثمن، يبيعوننا إياه بأفظع الطرق ونحن في أوج انفعالاتنا باعتبارها طريقة لتكريم ذكراه، هي ضرب من الجنون.

ومن التفسيرات المعطاة لتراجع عدد الجنازات أن الغالبية العلمانية ينتابها شعور دائم بأن الوفاة مرادفة للتدين. وكأن المتدينين أحكموا السيطرة على الوفيات كما كانت المافيا تسيطر على لاس فيغاس. لكننا ننسى إلى أي مدى تغيرت الأمور. وخير مثال على ذلك المشهد الحاسم، وإن كان صامتاً، لمغني البوب (إلتون جون)، يؤدي أغنية بوب ("شمعة في مهب الريح" Candle in the Wind) في جنازة فرد من العائلة الملكية (الأميرة ديانا) في 1997. وبعد 20 عاماً، تبقى الجنازات أكثر ارتباطاً برغبات الأشخاص الذي فجعوا بالوفاة، لا سيما بالنسبة إلى الموسيقى. لذا، ولت حقبة المراثي والألحان الجنائزية الحزينة إلى غير رجعة.

وفي هذا السياق، يشار إلى أن "قائمة موسيقى الجنازات" Funeral Music Chart التي تطلقها سنوياً شركة "كو-أوب" Co-Op للخدمات الجنائزية وهي أشبه بتطبيق "سبوتيفاي" في مجال تحنيط الموتى، تتخلله جملة من المؤشرات الثقافية. وعلى ما يبدو، سجلت القائمة هذا العام ارتفاعاً حاداً في الطلب على أغانٍ مثل "حطم روحي" Break My Soul لبيونسيه، و"يا رجل! أشعر بأنني امرأة" Man! I Feel Like a Woman لشانيا توين. ويُظهر تقرير آخر، يعود لعام 2019، زيادة في شعبية المواقع البديلة لإقامة الجنازات (حيث أقيمت إحدى الجنازات في ممر طلبات السيّارة التابع لمطعم "ماكدونالدز")، ناهيك عن رغبة متزايدة في إشراك الحيوانات الأليفة في مراسم التشييع. حتى إن مديري الجنازة لفتوا إلى أن الحاضرين في 11 في المئة من الجنازات كانوا يرتدون ملابس فاخرة.  

في ثقافة النوادي الليلية، حصل انقلاب غريب خلال الأعوام الخمسة الماضية، حيث اكتسبت سهرة "الما بعد" (المعروفة سابقاً بسهرة ما بعد الحفلة)، أهمية وقدسية أكبر من الحفلة الأساسية. وأعتقد بأن التوجه نفسه بدأ يسود تدريجاً عند حصول وفاة. فالحال أن السهر على الميت - وفي الحداد العصري، هو الجزء الذي يسمع فيه المشاركون أغاني من قائمة ألبومات "كله يعود لي" All Back To Mine، ويكثر فيه شرب الكحول وتناول السندويشات، ويليه مزيد من الكحول - تحول إلى الجزء الرئيس والأهم من الحداد بنظر القسم الأكبر من مجتمعنا. فالسهر على الميت يخولنا استيعاب الوفاة برفقة أقرب المقربين الذين أحبوا المتوفي دون سواهم، ويسمح لنا بوضع وفاة الشخص ضمن سياق معين. وقد أصبح السهر على الميت، شأنه شأن مفهوم "الاحتفال بالحياة" celebrations of life الذي يكتسب شعبية متزايدة، طريقتين رائجتين لتوثيق الوفاة وإظهار الحداد بأسلوب أكثر إيجابية، بعيداً من الحزن المرتبط عادة بالموت والجنازات.  

وفي سياق متصل، من المحتمل أن تشهد الأعوام المقبلة ميلاً متزايداً إلى استخدام "تكنولوجيا الحداد"، إذ تقوم مجموعة متكاملة من أدوات الذكاء الاصطناعي بتحليل مقاطع صوتية ولقطات فيديو وأرشيفات كتابية عن الشخص المتوفي، فتستحدث مثلاً أماً روبوتية قد توجه أسبوعياً رسالة فيديو من الآخرة، وتواصل تحطيم ثقتك بذاتك، وكأنها ساموراي يستعمل آلة برش الجبن. بيد أن استخدام صورة [الممثل الكندي] وليام شاتنر كالوجه الممثل لهذه التكنولوجيا (كونه يصور نفسه لساعات أمام شاشة خضراء لمصلحة شركة "ستوريفايل" StoryFile) هو خير ضمانة بأن المشروع برمته آيل إلى الفشل. مع أن السؤال الأكثر شمولاً الذي قد نود طرحه هو عن سبب توقنا الشديد للهروب من الموت أصلاً - أكان باللجوء إلى الحلول الجذرية التي توفرها أبدية الذكاء الاصطناعي، أو، على نطاق أكثر شيوعاً، عن طريق تحوير مفهوم الجنازة نظراً إلى أن رائحة "الموت" تفوح منها بعض الشيء.

غالباً ما أغفل الناس التغير الجذري الذي طرأ عندما أدى إلتون جون أغاني البوب في جنازة الأميرة ديانا عام 1997 (غيتي)

ولعلها من المرات النادرة التي أتعاطف فيها مع الأديان المنظمة. فعلى سبيل المثال، تفرض الديانة المسيحية جنازات حزينة ورصينة لا تقتصر على كونها احتفالاً، لأنها مناسبة تفرض أيضاً، ببعض الإلحاح، الصلاة على روح المرحوم كي يحظى بالرحمة الأبدية، أو كما ورد في تقرير "ثيوس": "يختبر كثيرون بيننا شعوراً بالحزن والأسى، من دون أن يكونوا قد تعرضوا للموت مباشرةً". وفي إحدى المرات، سمعت رجل دين يطلق ملاحظة خبيثة إنما ممتازة عبر أثير الراديو، أفاد فيها بأن الجنازة غير الدينية هي أشبه بـ"حفلة وداع [أحد الموظفين] في الشركة".

لكن العنصر الناقص في هذا التصرف هو أن السهر على الميت، وإن بدا ظاهرياً كمناسبة إيجابية وجامعة للأصدقاء مقارنة بالجنازة الرسمية، يخفي في طياته تفكيراً عميقاً جداً بالموت في قلوب جميع الحاضرين، إذ ينتابهم شعور عملاق ومؤلم بغياب كائن بشري، كان يفترض أن يكون حاضراً في المكان الذي اجتمعوا فيه جميعاً، وأن يكون مع جميع أصدقائه في آن، في غرفة اجتمع فيها كل من أحبه واهتم لأمره.

ومع أن الأجواء الظاهرية خلال السهر على الميت قد تتخللها لفائف من النقانق وكؤوس من الجعة ونوبات ضحك عند إخبار بعض النوادر، لا مجال للشك أبداً في أن الموت يخيم على الجنازات الخارجة عن المألوف، تماماً كما هي الحال في الجنازات التقليدية. وبدلاً من التفاعل مع الله أو مع المعبود، لا شك في أن التفاعل مع غرباء والتحدث معهم عن الخسارة التي يشعرون بها من اللحظات المؤثرة التي يختبرونها عند قدومهم [إلى المكان]. لذا، بغض النظر عما إذا كانت المناسبة جنازة، أو سهراً على الميت، أو احتفالاً بالحياة، أو ببساطة اجتماع أصدقاء يستمعون إلى قائمة أغاني الجنازة التي أعدها صديقهم [المتوفي]، لا يجدر أبداً أن يمر الموت مرور الكرام، من دون تنظيم أي مناسبة احتفالية أو تكريم.