من الصعب التوصل إلى فهم حجم #أزمة الـ "أفيونيات" في أميركا الشمالية بشكل جيد، فقد أسهم بروز العقار المسكن "أوكسي كونتين" الذي يباع بوصفة طبية ويسبب #إدماناً شديداً ويسمى بلغة #شركات_الأدوية العملاقة المقيتة "عقاراً شديد النجاح"، في وفاة أكثر من 600 ألف شخص بالإجمال لأسباب تتعلق بالمواد الـ "أفيونية" في الولايات المتحدة وكندا منذ عام 1999. وتوقع الخبراء احتمال وفاة 1.2 مليون شخص إضافي من جرعات زائدة بالمواد الـ "أفيونية" بحلول نهاية العقد الحالي.
أحياناً يتسبب الدواء نفسه بالموت وغالباً ما يؤدي بشكل مباشر إلى تعاطي مخدرات أخرى قد تكون قاتلة مثل الهيرويين أو الـ "فنتانيل". (نحو 80 في المئة من مدمني الهيروين اليوم يبدؤون بتعاطي الـ "أفيونيات" التي تُعطى بوصفة طبية).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتطاول تداعيات وباء أزمة الـ "أفيونيات" كل شخص في الولايات المتحدة تقريباً بطريقة أو بأخرى، وكلها مسؤولة عنها عائلة ساكلر.
منذ العام 1995 ومن خلال شركة "بوردو فارما" لصناعة الأدوية التابعة لهم، أشرف أفراد عائلة ساكلر على بذل جهد لم يسبق له مثيل لزيادة وصفات المواد الـ "أفيونية" في كل أرجاء البلاد، ومنح الأطباء حوافز مالية للمبالغة في وصف دواء "أوكسي كونتين" للمرضى، وتعرضت إدارة الغذاء والدواء إلى ضغوط كي تقلل احتمالات تسبب الدواء بالإدمان في الكلام المكتوب على الملصق الموضوع عليه.
وصُور المسلسل القصير المتقن "دوبسيك" (Dopesick) الذي عرضته "هولو" عام 2021 ومثل فيه مايكل كيتون الحائز على "جائزة إيمي"، الدور البشع الذي لعبته عائلة ساكلر في أزمة الـ "أفيونيات"، ويظهر هذا الدور الآن في الفيلم الوثائقي الجديد (All the Beauty and the Bloodshed) "كل هذا الجمال والدم" الذي رشح لجائزة الـ "أوسكار" في وقت سابق من الأسبوع الجاري.
لكن التركيز الرئيس للقصة هذه المرة ليس على عائلة ساكلر بل يلاحق فيلم (All the Beauty) نان غولدين، المرأة التي شنت حرباً على العائلة ليس بهدف تحقيق حلم العدالة المستحيل بل من أجل تحميلها قسطها من المسؤولية إلى حد ما، ومن اللافت أنها فازت في مساعيها.
"كنت أتابع تحركات نان عبر الأخبار"، كما تقول لورا بويتراس، مخرجة الفيلم التي فازت بجائزة "أوسكار" في السابق عن فيلمها الوثائقي سيتيزن فور "المواطن الرابع" (Citizenfour) الصادر عام 2014 عن إدوارد سنودن. "شعرت بحماسة كبيرة إزاء ما يحصل".
كانت غولدين أساساً شخصية عملاقة في عالم الفن، فهي مصورة فوتوغرافية مؤثرة أسهم عملها الشخصي جداً، The Ballad of Sexual Dependency، (قصيدة الإدمان الجنسي) في توسيع معايير هذه الوسيلة نفسها.
وفي عام 2017 أسست غولدين باين (PAIN) أو التدخل لمكافحة الإدمان على عقاقير الوصفات الطبية الآن، وهو تحرك يضم مجموعة من "الفنانين والناشطين والمدمنين المؤمنين بالعمل المباشر"، في محاولة لمحاسبة عائلة ساكلر.
جربت غولدين بنفسها احتمال إساءة تعاطي "أوكسي كونتين" بعد أن أدمنته (ثم أقلعت عنه) عندما وصف لها هذا الدواء لعلاج إصابة، ومن خلال استعارتها أساليب مستلهمة من مجموعة الاحتجاج "آكت آب" (ACT UP) التي نشطت خلال ثمانينيات القرن الماضي وناضلت في سبيل التغيير السياسي الإيجابي خلال وباء الإيدز، استهدفت مجموعة باين الوجه الخيري لعائلة ساكلر، أي المعارض الفنية والمؤسسات الكثيرة الذائعة الصيت التي بيضت من خلالها سمعتها.
كان هدف باين الأولي بسيطاً، إقناع المتاحف بالتوقف عن قبول التبرعات من عائلة ساكلر وإزالة اسمها من على مبانيها، ولتحقيق هذا الهدف نفذت المجموعة سلسلة من الحيل التي تستقطب اهتمام الإعلام "الاستلقاء أرضاً كالموتى" والمسيرات الاحتجاجية والاحتجاج الفني المتقن الذي يتضمن استخدام "أوراق نقدية" ملطخة بالدماء أو أكوام من علب العقاقير المزيفة.
كانت غولدين وغيرها من أعضاء باين يصورون الأحداث التي تجري وراء كواليس هذه المساعي منذ بعض الوقت عندما بدأت بويتراس بتوثيق تحركاتهم، وتقول لي "شعرت بحماسة كبيرة إزاء ما تفعله نان من تسخير نفوذها في عالم الفن للمطالبة بالمحاسبة، وهذا ليس حدثاً اعتيادياً، أليس كذلك؟"
في مرحلة من المراحل وفيما كانت الاحتجاجات مستمرة أدركت غولدين وغيرها من أعضاء باين أمراً مخيفاً، وهو أن بعض الرجال يلاحقونهم في شاحنات صغيرة ويعتقد بأنهم محققون خاصون استخدمتهم "شركة بوردو"، وتقول بويتراس التي تعمقت في معظم أفلامها الوثائقية السابقة في موضوع المراقبة والترهيب الحكومي (وقد خضعت شخصياً لمراقبة حكومية مكثفة) "كان من المهم أن نضع هذه النقطة في "كل هذا الجمال والدم" بسبب استخدام المراقبة كأسلوب للبرهنة عن القوة كل الوقت، فإن كانت الجهة التي تستهدف الناشطين الحكومة الأميركية أو العائلات النافذة صاحبة المليارديرات، فهي تتبع مجموعة أساليب محددة والمراقبة إحدى هذه الأساليب".
تظهر اللقطات المعروضة في الفيلم، وقد صورها الناشطون في باين، الشاحنات الصغيرة وهي ترصد تحركاتهم خارج منازلهم، ويجلس رجال داخل الشاحنات ولا يظهرون أي حرج من أن أحداً يصورهم، ولا شك في أنها تجربة تهز المرء.
وتشرح بويتراس "هناك شكل من المراقبة تسعى من خلاله إلى جمع المعلومات، وشكل آخر تسعى من خلاله إلى ترهيب الأخرين، وهذا النوع ينتمي بشكل لا لبس فيه إلى فئة الترهيب".
تتخلل الوثائقي مشاهد عن عمل غولدين مع باين وأخرى تسبر أغوار القصة الشخصية للفنانة، ونتعرف على باربرا شقيقة غولدين التي تمردت على المعايير الاجتماعية القمعية وانتحرت بعد إدخالها إلى المصحة العقلية مرات عدة، كما نغوص في مرحلة الشباب التي قضتها غولدين في دوامة عالم أحرار الجنس السري في نيويورك المليء بالحيوية والمخدرات، وندخل في صراعاتها مع الإدمان والفترة التعيسة التي قضتها في العمل الجنسي، وشريكها الحميم المعنف الذي ضربها في إحدى المرات قرب عينيها بشدة تشير إلى أنه كان يحاول أن يعميها. شاركت غولدين في إعداد الفيلم وعملت عن كثب على القسم الذي تناول قصة شقيقتها الراحلة والاعتداء عليها.
غولدين التي نقابلها في الوقت الحاضر هي شخص أكثر هدوءاً وواقعية من الفنانة المتمردة التي نرسم صورتها في ذهننا من خلال الذكريات والصور الفوتوغرافية القديمة، لكنها لا تزال المحاربة ذاتها، وتقول بويتراس "لن أستخدم كلمة تخريب لوصف ما يدفع نان إلى صناعة الفن أو العمل الناشط، بل أشعر بأنها تتفاعل مع العالم الذي تعيش فيه".
في عام 2019 بدأ عمل باين يؤتي ثماره، إذ أخذت بعض المتاحف مثل "متحف متروبوليتان" للفنون و"متحف غوغنهايم" و"متحف اللوفر" بقطع علاقاتها مع عائلة ساكلر، وخلال السنوات التالية انهارت علاقات العائلة مع المتاحف مثل قطع الدومينو.
لا ينحصر هذا الجهد أبداً بالولايات المتحدة وحدها، فقد ضخت عائلة ساكلر الأموال في عدد من المؤسسات الراقية حول العالم ومن بينها مؤسسات كثيرة في المملكة المتحدة، وفي سبتمبر (أيلول) الماضي أصبح "متحف فكتوريا وآلبرت" آخر مؤسسة من بين الأضخم في البلاد تزيل اسم ساكلر عن مبناها، ومع ذلك فقد يكون من الأصعب على الناس في المملكة المتحدة أن يستوعبوا مدى الدمار الذي تخلفه أزمة الـ "أفيونيات"، فهنا ارتفع معدل استخدام العقاقير الـ "أفيونية" بحدة خلال العقد الأخير، لا سيما في الشمال الشرقي، بينما ارتفع معدل الوفيات إلى نحو 2000 وفاة سنوياً، لكن بحسب ما تشير "مجموعة برايوري" لا يمكن "مقارنة الوضع (هنا) بأي شكل من الأشكال" بأزمة الـ "أفيونيات" في الولايات المتحدة، فلا يحق لشركات الأدوية في المملكة المتحدة أن تسوق عقاقيرها بشكل مباشر للمرضى أو أن تقدم للأطباء حوافز مالية مربحة لكي يصفوا بعض الأدوية للمرضى.
وتقول بويتراس "هذه فعلياً إدانة للولايات المتحدة. تدركون بأن عائلة ساكلر تمارس الضغط على إدارة الغذاء والدواء لكي تقلل من أهمية خصائص هذا الدواء التي تسبب الإدمان على الملصق الموضوع عليه، ثم لديك العائلة التي كانت تسوقه مباشرة للأطباء وتقدم الإجازات والعطل للأطباء وتتحرى عن الطبيب الذي يبالغ في وصفه وتدفعه بهذا الاتجاه أكثر".
طبعاً كانت كل هذه التصرفات غير قانونية بالمبدأ في الأساسـ، وقانوناً كان من المفترض وقف بوردو عند حدها منذ عقدين من الزمن حين بدأت بمحاولات فرض "أوكسي كونتين" على الجماهير.
وتضيف بويتراس، "ومع ذلك سمحنا لهذا الوضع بالاستمرار، وأعتقد بأنه جزء من فشل الرأسمالية الأميركية، إذ يبدو وكأن أرباح هذه الشركة أهم من أرواح الناس".
ومع أن نهاية فيلم "كل هذا الجمال والدم" تدعو إلى الارتياح، لكن هذا النصر محدود، فتدمير سمعة عائلة ساكلر باعتبارها عائلة إنسانية ومحبة للخير في عالم الفنون لا يساوي تحقيق العدالة الحقيقية، ومع ذلك فهو انتصار رمزي فوق كل شيء.
وتقر بويتراس بأن "نان ستكون أول من يقول ذلك، وللأسف فما يصوره الفيلم هو الإفلات من العقوبة بقدر ما يصور أي شكل من أشكال الانتصار، لكنني أرغب فعلاً بالاحتفاء بأن باين حققت إنجازاً ملموساً عندما أزالت اسم العائلة وفضحتها".
وتضيف، "لكن في الحقيقة يجب أن تدين وزارة العدل ريتشارد ساكلر، ويجب توجيه تهم جنائية ضده، وهذا ما يجب أن يحدث في مجتمع يؤدي دوره على نحو فعال".
وأقرت "شركة بوردو" بذنبها في تهمتين جنائيتين لكن لم يوجه لأي فرد من عائلة ساكلر اتهام بارتكاب جرم، وفي عام 2020 قامت "بوردو" التي أشهرت إفلاسها عام 2019 بتسوية دعوى قضائية ودفع مبلغ يناهز 8 مليارات دولار (6.45 مليار جنيه).
يشكل "كل هذا الجمال والدم" شهادة معقدة ومؤثرة جداً لغولدين بصفتيها الفنية والإنسانية، وكما تلفت بويتراس فإن أهميتها كمصورة فوتوغرافية وفنانة محبة لخير الإنسانية، مؤكدة من فترة طويلة ولا جدال فيها، "لكن نجاحها في هزيمة عائلة من أصحاب المليارديرات سيقرن اسمها بهذا الأمر أيضاً الآن".
"كل هذا الجمال والدم" يعرض في دور السينما الآن.