كل عام وأنتم بخير

منذ 1 سنة 285

الغرض من هذه الكتابة هو تذكير القراء الأعزاء، بأن عيد الميلاد المجيد الذي يصادف الأسبوع المقبل، يوفّر فرصة للتأكيد على فضيلة من أعظم الفضائل الإنسانية، وهي التسامح.
في سنوات سابقة كان الأسبوع الأخير من العام الميلادي، أشبهَ بسوق موسمية تعقدها إحدى الجماعات السياسية/الدينية للتعبئة وكسب الأنصار، وتدريب الأعضاء والمحازبين على مقارعة الخصوم. وكانت مادة عملهم في هذا الموسم هي الخطب والكتابات التي تشكّك في صحة الميلاد المجيد، وصحة انتماء المسيحيين المعاصرين إلى دعوة نبي الله عيسى. وتختتم بالتأكيد على حرمة تهنئة المسيحي بعيد الميلاد أو السنة الجديدة، والتنديد بالمسلمين الذين أحسنوا إلى جيرانهم من أهل الأديان الأخرى أو تلطَّفوا معهم.
الحمد لله أنَّ تلك السوق ما عادت قائمة. ولم يعد ثمة حرجٌ في دعوة القراء الأعزاء لاغتنام الفرصة، ولو بأدنى ما يستطيعونه، مثل تقديم التهاني بالمناسبة، لكل من يفرح في عيد الميلاد أو يحتفل به، سواء كان باعثُه دينيّاً أو دنيويّاً.
أعلم طبعاً أنَّ الأمر محرجٌ لبعض الناس، نظراً لما يعرفون من فتاوى لفقهاء معاصرين وقدامى، تؤكد ذلك التحريم. لكني أعلم أيضاً أنَّه لم يردْ نصٌّ صريحٌ في الكتاب أو السنّة الشريفة، يدعم ذلك التحريم على نحو ينفي الاختلاف والجدل فيه.
أستطيع القول – مع شيء من التحفظ – إنَّ غالبية المنادين بالتحريم، يرجعون لاجتهاد فقهي يصنّف الفعل المذكور ضمنَ التشبُّه بغير المسلم، أو إبداء الرضى بالباطل، أو المساعدة على إشاعته، وما إلى ذلك. وهذه الاستدلالات كلُّها تكلفٌ بلا ضرورة، فهي لا تنطبق على فعل التهنئة، وقياسها لا يستند إلى تسلسل منطقي سليم، ولا تدعمُها تجربة واقعية قديمة أو معاصرة. بل الأمر على عكس ما قيل. فقد ثبت بالتجربة الواقعية المتكررة في بلاد المسلمين وغيرها، أنَّ الاحتفال بعيد الميلاد أو التهنئة به لم يخلف أيَّ ضرر ملموس، بل لعله لا يخلو من منفعة. وعلى أي حال فإنَّ مفاهيمَ مثل نصرة الباطل أو التشبُّه بالكافر، لا تنطبق على أي فعل إلا إذا عرف تعريفاً جامعاً مانعاً، إذ إنَّ التحريم حكم عظيم لا يصحُّ التساهل في إصداره أو تطبيقه إلا على أضيق نطاق، لا يترك عذراً لمن تجاوزه.
ويظهر لي أنَّ الميلَ الفقهي للتشدد في العلاقة مع غير المسلمين، ليس ناتجاً عن دراسة محايدة للنصوص المتعلقة بالموضوع، ولا بموازنات المصالح التي ينبغي للفقيه أن ينظر فيها قبل إصداره للفتوى، بل هو تعبيرٌ عما سمَّاه بعضُ المعاصرين «فقه المحنة» الذي يربط صفاء العقيدة والسلوك باعتزال المخالفين والمختلفين.
هذه إذاً فرصة للتأكيد على فضيلة التسامح، وتطبيقها فعلياً. وقد أوضحت فيما سبق أنَّ التسامحَ لا يعني اللين في المعاملة، كما يتكرَّر على ألسنة الناس، بل الإقرار بأنَّ لكل إنسان، منَّا وممن يخالفنا، حقاً أصيلاً وغير قابل للمزاحمة، في اختيار الدين الذي يرى فيه نجاتَه، وطريقة العيش التي تضمنُ سعادته. لقد اخترنا دينَنا واختاروا دينهم. وليس لأحدٍ منَّا أو منهم أن يُنكرَ حقَّ الآخر في اختيار طريقه للخلاص أو السعادة. لا يجوز لك أن تزاحمَهم، كما لا يجوز لهم أن يزاحموك في خياراتك. هذا ببساطة معنى التسامح.
آمل أن نبادرَ جميعاً لتهنئة شركائنا في هذا الكوكب بعيد الميلاد المجيد، تأكيداً على احترامنا لحقوقهم وخياراتهم، على أمل أن نكونَ ممن ينال فضل المبادرة بإلقاء السلام. إن أردت نشر الاحترام في عالمك، فكن صانعَه الأول.