كرة القدم... علم في الرأس وموهبة في الأرجل

منذ 1 سنة 188

بدت "رياضة الفقراء" في أول ظهور لها، كما لو أنها لعبة مجانين يركضون خلف كرة مصنوعة من قماش بالٍ في الساحات العامة، ومن دون قواعد ومتطلبات ومظاهر ثراء، إلا أنها دخلت اليوم في حسابات كبار المستثمرين حول العالم وأصبحت تدر مبالغ طائلة على كل من يرتبط اسمه بها من أفراد ومؤسسات وجهات إعلامية ودول.

وهذا هو إدواردو غاليانو، الكاتب والروائي الأورغواياني، يصف الحال الذي آلت إليه لعبة كرة القدم قائلاً "تاريخ كرة القدم هو رحلة حزينة من المتعة إلى الواجب، فكلما تحولت هذه الرياضة إلى صناعة، كان يجري استبعاد الجمال الذي يتولد من متعة اللعب لمجرد اللعب، لقد تحول اللعب إلى استعراض، فيه قلة من الأبطال وكثرة من المشاهدين، وتحوّل هذا الاستعراض إلى واحد من أكثر الأعمال التجارية ربحاً فـي العالم، لا يجري تنظيمه من أجل اللعب وإنما من أجل منع اللعب. لقد راحت تكنوقراطية الرياضة الاحترافية تفرض كرة قدم تعتمد السرعة المحضة والقوة الكبيرة، وتستبعد الفرح، وتستأصل المخيلة وتمنع الجسارة".

كما اعتمدت بدايات أكثر الرياضات شعبية على الإطلاق على الموهبة الصرفة بعيداً من أية اعتبارات أخرى، حتى أبسط قواعدها الحالية لم توضع إلا بعد قرون طويلة من عدم الاعتراف بها، لكن وكما معظم الرياضات الأخرى مثل كرة السلة والبيسبول والغولف وغيرها، بات هناك العديد من العلوم المدهشة التي تقف وراءها، وجزء كبير من هذه العلوم يتعلق بالفيزياء تحديداً، وانتشرت الدراسات والكتب الموسعة بهذا الخصوص وكان أحدها كتاب "كرة قدم نيوتن" ( Newton's Football) – (من تأليف ألين جون وأنيسيا راميريز) الذي نظر إلى كرة القدم من منظور علمي بحت، وقدم قراءة مختلفة لعالم كرة القدم ماراً بعرض تاريخي يصف تطور هذه الرياضة وما آلت إليه.

الكرة

تتركز الكثير من العلوم الكامنة وراء هذه الرياضة على "الكرة" نفسها وكيف يتفاعل اللاعبون معها، فلطالما كانت الكرات الخاصة بكرة القدم أكثر سلاسة من كرات الأنواع الأخرى من الرياضات التي تعتمد على الكرة، لأن اللاعبين لا يسمح لهم بلمس الكرة بأيديهم، باستثناء حارس المرمى طبعاً. 

كرة الرحلة التي اعتمدت في قطر تعتبر الأسرع في تاريخ المونديال (غيتي)

ومع الوقت أصبحت خطوط خياطة الكرة الخاصة بكرة القدم أطول، مما جعل سطحها أقل نعومة وأصبحت أقرب لكرة البيسبول أو كرة السلة، إذ علمياً يعطي هذا التصميم الشخص الذي يركلها تحكماً أكبر في المكان الذي ستذهب إليه، بخاصة في التسديدات الطويلة، وهذا ما جعل تصميم الكرات الخاصة ببطولة كأس العالم على قدر كبير من الأهمية، وكان قد وصف الاتحاد الدولي لكرة القدم، مميزات كرة مونديال قطر 2022 بأنها تتمتع بالقدرة على التنقل في الهواء بشكل أسرع من أي كرة أخرى في تاريخ البطولة، وتتميز بتصميمها الجديد كلياً وقوام سطحها الذي زودها بمستويات عالية من الدقة والموثوقية، فقد صممت بالاعتماد على بيانات واختبارات صارمة.

فيزياء كرة القدم

هل فكرت يوماً وأنت ترمي الكرة لصديقك أنك تستخدم الفيزياء من دون وعي منك، فأنت تقوم بتعديلات سريعة لضبط عوامل عدة، مثل المسافة والزاوية واتجاه الرياح ووزن الكرة وغيرها، هذه الإجراءات التي تحدث في رأسك بشكل طبيعي ومن دون جهد منك، تتبع لأحد فروع العلم الذي يتعامل مع العالم المادي.

ويعد فرع الفيزياء الأكثر صلة بكرة القدم هو الميكانيكا (النظرية الأساسية في الحركة)، الذي يُعنى بدراسة القوى المسببة للحركة، وحالاتها مثل إيصال كرة القدم عبر الهواء، وتقدم كرة القدم بعض الأمثلة الرائعة للمفاهيم الأساسية للفيزياء المتمثلة في تحليق الكرة وحركة اللاعبين وقوة التصدي.

كما يعتمد على العلم في وضع تشكيلة اللاعبين في الملعب وكيفية اصطفافهم وأماكن وقوفهم وحركتهم، فنجد اللاعبين يصطفون عادة بعيداً من خط المناوشة على جانبي الخط الهجومي والدفاعي، حيث يتيح لهم تمركزهم هذا مجالاً أو وقتاً للانتقال والدفع من حالة الراحة إلى السرعة العالية إما للركض بالكرة أو ملاحقة حامل الكرة.

"الركلة المستحيلة" التي نفذها البرازيلي روبرتو كارلوس (غيتي)

أما بالنسبة إلى الكرة، فإنها تتبع مساراً منحنياً أو على شكل قطع مكافئ عندما تتحرك في الهواء، والسبب أن حركة الكرة في الاتجاه الرأسي تتأثر بقوة الجاذبية، فعندما تتحرك الكرة للأعلى تعمل الجاذبية على إبطاء سرعتها حتى تتوقف لفترة وجيزة عند ذروة ارتفاعها، ثم تسقط للأسفل حيث تسرعها الجاذبية حتى تصطدم بالأرض، وعملياً هذا هو المسار الطبيعي لأي جسم يتم إطلاقه أو إلقاؤه، سواء كان كرة قدم أو سهماً أو صاروخاً، والذي يعرف فيزيائياً بـ"حركة المقذوف المنحنية".

الركلة المستحيلة

وعندما يركل اللاعب الكرة يمكنه التحكم في ثلاثة عوامل، السرعة (السرعة التي تغادر بها الكرة قدمه) وزاوية الركلة ودوران الكرة، وهناك معادلات معقدة في هذا الصدد، وأشهر ركلة استخدمت تقنية شملت ظواهر فيزيائية عدة معاً هي ما وصفت بأفضل ركلة حرة على الإطلاق في تاريخ كرة القدم الدولية، والتي سددها روبرتو كارلوس عام 1997 على بعد 35 متراً من قائم المرمى وفيها ركل النجم البرازيلي الكرة مستعيناً بالجهة الخارجية من قدمه اليسرى، لتأخذ مساراً غريباً يتحدى الاتجاه التقليدي لكرة القدم، بدورانها بعكس اتجاه عقارب الساعة قبل أن تدخل المرمى، وأطلق عليها حينها اسم "الركلة المستحيلة".

في المقابل، ارتكزت بعض التفسيرات المتعلقة بانحراف كرة القدم بصورة قوسية، على أن الطقس الجاف عزّز من دوران الكرة المتحركة بشكل مضاعف عنه لو كانت في الظروف العادية، بالتالي واجهت الكرة سَحباً أقل نسبياً على طول المسار، وانخفضت سرعتها بشكل كبير في مكان قريب من جدار المدافعين، ومن ثم زاد السحب بشكل كبير وتباطأت الكرة أكثر، مما خلق قوة "ماغنوس" (ظاهرة تأثير ماغنوس الفيزيائية) التي مكنت الكرة من الانحناء ساقطة باتجاه قائم المرمى، أدى كل من عدم انخفاض معدل الدوران وزيادة معامل السحب، إلى مزيد من الحركة الجانبية، الأمر الذي أجبر الكرة على الانحناء أكثر، وبالنهاية، مع استمرار الانخفاض في السرعة، استمرت الكرة في الانحناء أكثر.