في السياسة لا صوابية مطلقة، بل هناك مواقف تتخذ قد تؤدي إلى نتيجة إيجابية، وأخرى إلى نتيجة سلبية، ومعركة «الوطنية الفلسطينية» مقابل «الوطنية الإسرائيلية» كما نشاهد اليوم هي معركة طويلة وقاسية بل مدمرة، وما نراه على الساحة اليوم في غزة ما هو إلا جزء منها، صحيح أنه جزء دامٍ وفي مجمله «إبادة» إلا أنه محطة من محطات الصراع، والمؤلم أن تحليل هذا الصراع، من الجانب العربي، في معظمه اقتراب عاطفي.
لعل بعض القضايا الكلية تحتاج إلى إعادة تقييم موضوعي:
أولاً: «ازدواجية المعايير الغربية» كثيراً ما نرى في التحليلات العربية شكوى أن هناك «ازدواجية في المعايير الغربية» بمعنى، كرامة البشر، وحق تقرير المصير، والمساواة بين البشر بصرف النظر عن الجنس أو اللون أو الثقافة، في الظاهر ذلك صحيح، أما في السردية «الصهيونية، التي تحولت إلى إسرائيلية» فإن ذلك يحتاج إلى وقفة، قال بها المؤرخ الفلسطيني رشيد الخالدي في كتابه «مائة عام من الحرب في فلسطين»، إن موقف الدول الكبرى كان مناصراً دائماً للموقف الصهيوني، الذي أصبح دولة إسرائيل، بريطانيا أولاً ثم الاتحاد السوفياتي، ثم بريطانيا وفرنسا، ثم أخيراً أميركا، وما زالت هذه الدول بما فيها ألمانيا، بعد الحرب العالمية الثانية، تقوم بمد إسرائيل بأشكال من العون، سواء الإيجابي «سلاح ومال» أم السلبي «بالامتناع عن الإدانة»، وحتى القوى العالمية الجديدة مثل الصين، هذا الأمر يدفعنا للبحث عن أسباب تلك النصرة المطلقة، وتجاهل الاعتراف بأن هناك شعباً اسمه الشعب الفلسطيني له حقوق في أرضه! السبب هو التخلص النهائي من «المسألة اليهودية» في الغرب من خلال «توطينهم» في فلسطين!
ثانياً: الحديث المتواتر لدى البعض اليوم أن هناك تغييراً «في موقف الرأي العام العالمي»، ويدلل على ذلك بالتصويت في الجمعية العامة من جهة، وأيضاً خروج المسيرات من ناحية أخرى في بعض العواصم الغربية، كل ذلك صحيح، ولكن ما الوزن النسبي على أرض الواقع «غير الوزن المعنوي» الذي تحققه تلك المواقف؟ في الغالب ليس شيئاً كثيراً، فهي لا تؤثر في السياسات المتبعة، فيعرف الساسة الغربيون أن تأثير المال والنفوذ الإعلامي وثقل الشعور بالذنب تجاه المسألة اليهودية في التاريخ الغربي، كلها تجعل الميل إلى تبرير ما تفعله إسرائيل أقرب من إدانتها، حتى استخدام المفاهيم، فكثيرون في الغرب اليوم حتى لو تعاطفوا مع ما يحدث في غزة، إلا أنهم يرفضون استخدام مصطلح «الإبادة»، بل ذلك فقط مخصص لما عاناه اليهود على يد النازية الألمانية إبان الحرب العظمى الثانية، كما أن مصطلح «معاداة السامية» مخيف للسياسي الغربي، وفي الغالب يفقد منصبه أو مكانته بمجرد أن يُتهم بأنه «معادٍ للسامية»، وأمامنا عدد كبير من هؤلاء، آخرهم وزير في الصف الخلفي في حكومة الظل البريطانية، تجرأ أن يطلب علناً «وقف إطلاق النار»، ففُصل من منصبه على الفور، لذلك فإن الموقف الأميركي الذي جاء على لسان السيد جو بايدن منذ أشهر: «أنا صهيوني»، وأخيراً وزير خارجيته: «جئتكم بصفتي يهودياً»، يفسر البعض منه الشعور الانتخابي العام في تلك البلدان، سواء أميركا أو بريطانيا أو فرنسا أو ألمانيا! لو لم يشعر هؤلاء الساسة بأن هناك جمهوراً وازناً يؤيد الدولة اليهودية «لأسباب كثيرة» لما وقف ذلك الموقف، واستطراداً فإن موقف الأمين العام للأمم المتحدة الذي يوصف بالشجاع، وذلك حق، لن يبقى في منصبه في الدورة المقبلة، إن كان يحق له الترشح!ثالثاً: خرافة «وحدة الساحات» و«فتح الجبهات»، لقد خيل إلى الجمهور العربي أن هناك، بالفعل، وحدة ساحات في ما يعرف بمحور المقاومة، الذي أخذ الجمهور العربي إلى مكان يراه فيه «الأمل الوحيد»، وقد صدرت تصريحات كثيرة عن أن هناك «غرفة عمليات مشتركة» كما قال السيد علي بركة الذي قدمه لنا مذيع الحلقة على أنه «قيادي في (حماس)»، وقد أذيع اللقاء قبل يوم واحد من خطاب حسن نصر الله، وبصرف النظر عمَّا سرّبه من خرافة في ذلك اللقاء «أن الملائكة تحارب مع قوات (حماس) في غزة»! بصرف النظر عن مثل تلك المقولات التي تعودت قيادات ترويجها للجهلة، فإنه طلب من حسن نصر الله «تفعيل ما اتفق عليه»، وطبعاً تبين أن وحدة الساحات خرافة أخرى مضللة، يراد منها إطعام العامة مسكنات لا غير، وأثبتت الوقائع تبخر تصريح السيد وزير الخارجية الإيراني الذي قال: «الأصبع على الزناد»!
رابعاً: مع الاحترام والتبجيل للدم الذي تدفق في غزة، والأرواح التي ذهبت في هذه الإبادة المنظمة، فإن العقيدة الصهيونية - الإسرائيلية هي «إذابة الشعب الفلسطيني» إما بقتله وإما بتهجيره وهذا هو الأهم هنا «تشجيع الفرقة بين نسيجه الإنساني» تحت ذرائع مختلفة، ومع الأسف، أو حتى أكثر من أسف، بلع البعض من الفلسطينيين ذلك الطُّعم، ونزعوا إلى الصراع بينهم، وعملت الاستراتيجية الإسرائيلية على احتواء غزة، حيث تزودها بالمال والوقود، وتفتح لبعض أهلها العمل، على أن تبقى الفُرقة الفلسطينية؛ لأنها تحقق هدفاً استراتيجياً إسرائيلياً. صحيح أن «حماس» لأسباب كثيرة قررت التمرد على ذلك «التطويع»، لكنها استمرت في النزاع مع أشقاء في الضفة، وهذا هو المهم من وجهة النظر الإسرائيلية، على الرغم من الجهود الجبارة العربية التي حاولت تكراراً رأب الصدع بين «الأشقاء الأعداء»، وذهبت كل الجهود هباءً!
خامساً: ما زال الجمهور العربي ضحية تعظيم الهوامش، فالقول بـ«السواعد اليمنية» و«السواعد العراقية» وذم العرب الآخرين، هو من جديد تضليل الجمهور، فلا الصواريخ والمسيرات «العمياء» القادمة من صنعاء، سوف تؤثر بأي شكل في سير المعركة ولا الهجوم من البعض من «حزب الله» العراقي وآخرين على الحدود الأردنية يؤثر في المعركة، ولا حتى الإساءة للعرب، كل ذلك إصرار على «استغباء» الجمهور العربي الذي خرجت شرائح واسعة منه من ذلك التضليل إلى نور العقل الذي يحاكم الأشياء بنتائجها.
آخر الكلام:
غباء أن تصدق دعاية العدو، والأغبى منه تضليل جمهورك!