كتب المذكرات الجدلية لم تسقط العائلة البريطانية المالكة ولكنها أضرتها

منذ 1 سنة 170

عندما يطرح الأمير هاري مذكراته بعنوان "الاحتياطي" Spare هذا الأسبوع، لن يكون أول فرد في العائلة الملكية الذي يقدم سجله الشخصي للاستهلاك العام. فبالعودة إلى القرن التاسع عشر، شارك أجداد هاري رسائل سرية من داخل القصر مختارة بعناية، مثيرين بذلك وبشخصهم درجات متفاوتة من الجدل.

بدأ الأمر مع الملكة فيكتوريا التي نشرت جوانب بريئة ومحسوبة بدقة مرتبطة بحياتها كأرملة في العائلة الملكية في مذكراتها عام 1868 بعنوان " Leaves from the Journal of Our Life in the Highlands" (أوراق من مذكرات حياتنا في هايلاندز). لم يثر الكتاب كثيراً من الانتقادات، خلافاً للكتاب الذي تبعه الذي أثار المفاجأة لكونه مهدى إلى الخادم جون براون الذي أشادت به الملكة واصفةً إياه بـ"مساعدي الشخصي الأمين وصديقي المخلص". بالنسبة إلى مواطني فيكتوريا، شكل هذا الأمر موضوعاً حساساً فقد وصف ابنها البكر، الملك إدوارد السابع نشر الكتاب "بالجنون".

ما الذي كان ليطلقه على كتاب "ديانا: قصتها الحقيقية" Diana: Her True Story الذي صدر بعد قرن من الزمن في عام 1992؟ أظهر كتاب أندرو مورتون الذي غير قواعد اللعبة بأن السرد الملكي المباح هو أداة لا غنى عنها لوسائل الإعلام. يؤرخ الكتاب كفاح أميرة ويلز في صحتها النفسية وزواجها المتوتر بصدق غير مسبوق وساعد في ترسيخ شخصية ديانا العامة على أنها منفتحة وحقيقية وضعيفة وحول الرأي العام بشدة لصالحها. تعاونت الأميرة بشكل وثيق مع مورتون ولكنها وبشكل ينم عن دهاء لم تلتقيه أبداً، بل سجلت الأجوبة عن أسئلته واستعانت بصديقها جيمس كولتهيرست ليلعب دور الوسيط. شكل هذا ورقة رابحة لديانا التي تمكنت من سرد قصتها بحرية مع الاحتفاظ بدرجة من سياسة الإنكار.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

باعترافه الخاص، قال هاري بأنه "ابن أمه"، وإن كانت المقتطفات المسربة صحيحة، سيكون كتاب "الاحتياطي" حرفياً قنبلة أخرى تلقى على المؤسسة الملكية. ولكن أوجه الشبه التي يحملها الكتاب مع أفراد متمردين من العائلة الملكية هي مثيرة للاهتمام أيضاً. فقبل 70 عاماً على إبرام هاري اتفاقاً بملايين الدولارات مع دار "بنغوين راندوم هاوس" للنشر، كشف عمه الأكبر دوق وندسور النقاب عن كتابه الذي وعد فيه بسرد تفصيلي لسبب مغادرته القصر للعيش في الخارج مع زوجته الأميركية. هل يذكرنا هذا الأمر بشيء؟ نشر كتاب "قصة ملك" A King´s Story عام 1951 ويؤرخ الطفولة الملكية للملك السابق إدوارد الثامن والفترة الوجيزة التي قضاها على العرش وقراره بترك كل شيء والزواج من المرأة المطلقة واليس سمبسون.

عندما اقترح قطب الإعلام هنري لوس على الدوق في أواخر الأربعينيات كتابة بعض الأفكار حول أولى مراحل حياته، كان يواجه موجة من العناوين العريضة السلبية التي سيقت بحقه. وشملت تلك الأمور، اجتماعه مع هتلر قبل الحرب ومحاولاته الفاشلة بالحصول على دور رسمي في الولايات المتحدة ومشكلاته المالية المستمرة. جذبته فكرة أن ونستون تشرشل عمل مع الناشرين أنفسهم وتلقى مبلغاً كبيراً من المال، ووافق على القيام بذلك في نهاية المطاف.

وتحولت أربع مقالات إلى كتاب كامل. وقال كاتب مذكراته (كاتبه الخفي) الصحافي الأميركي تشارلز مورفي في وقت لاحق بأن الدوق أمل في استعادة بعض الدور. "لترميم سمعته والتأكد من أن روايته للقصة قدمت بشكل عادل ولاستعادة بعض احترامه الذاتي، قرر أن يكتب نصاً دفاعاً عن نفسه وضع في إطار سيرته الذاتية"، بحسب ما كشفته مقدمة كتاب مورفي عام 1979 بعنوان "قصة وندسور" The Windsor Story الذي شارك في تأليفه جو براين.

اعتبر العنوان، تماماً ككتاب "الاحتياطي" مثيراً للتحريض. فقد اعتبر رجال البلاط أنه لا يحق للدوق استخدام كلمة "ملك". واليوم، اعتبروا بغضب أن هاري يستغل تجريده من ألقابه لتحقيق مكاسب شخصية. قد يظهر هاري مرتدياً قميصاً وعقداً في صورة الغلاف، بعيداً من سلفه الذي ظهر بلباس رسمي، ولكن يبدو أن النقاشات حول تحقيقه الدخل من العائلة الملكية لم تتبدل كثيراً منذ الخمسينيات. وفي رد على تدفق الرسائل التي تدين كتاب الدوق، قال تومي لاسيلز السكرتير الخاص للملك للموظف الحكومي دينيس ريكت، "تعبر كلها عن السخط تجاه ملك إنجلترا السابق الذي يبيع مقابل المال مذكرات حياة عائلته بطريقة غير محترمة ولهدف حقير".

أمل الدوق أنه، بالكتابة بعد مرور 15 عاماً على تخليه عن العرش، ستكون "العواطف السياسية" التي أثارها "الجانب الأكثر إثارة للجدل تاريخياً في مسيرتي، قد بردت منذ وقت طويل". ولكن، كما حصل مع كتاب هاري، الذي قيل إنه تأجل نشره في أعقاب وفاة الملكة، أصبح التوقيت شائكاً لأسباب تتخطى سيطرته. فقد تزامن الإصدار في الماضي مع فترة تراجع صحة الملك حينها، ففي كتاب "الملك إدوارد الثامن"King Edward VIII، كشف كاتب السيرة الذاتية فيليب زيغلر بأن تشرشل حث الدوق على إلغاء التزاماته لترويج الكتاب ناصحاً إياه الابتعاد عن كابوس محتمل في العلاقات العامة.

ينطوي كتاب "قصة ملك" على بعض الآراء الصريحة حول نهج عدم تدخل العائلة المالكة في تربية الأطفال ("غالباً ما شعرت أنه على رغم عاطفته التي لا شك فيها تجاهنا جميعاً، كان والدي يفضل الأولاد كفكرة تجريدية") ويفصل قصة حبه للسيدة سمبسون المتزوجة. ولكن بالنسبة إلى القارئ الحديث المشروط بدورة إخبارية مستمرة من المشاهير الذين يكشفون عن كل أخبارهم، يكاد يكون ذلك غير ضار تماماً.

واليس سمبسون ودوق وندسور إدوارد الثامن في عام 1964 (غيتي)

لم يأت الكتاب للتطرق إلى سمعة الدوق كزير نساء قبل لقائه بواليس وقد تحولت قصة حبهما خارج إطار الزواج إلى قصة خيالية تشبه الأحلام مع بعض المحاولات الفاشلة في الكوميديا الحمقاء (فقد كتب الدوق أنه شعر بالانجذاب عندما تجاهلت واليس دعاباته الضعيفة المتعلقة بالتدفئة المركزية الأميركية). وكان أكثر أمر صادم هو خلو الكتاب من الاتهام، فقد كان رصيناً ومدروساً وحتى دافئاً في تصويره للاعبين البارزين (ما عدا رئيس الحكومة ستانلي بالدوين). لا يتعلق الأمر بتصفية الحسابات أو الصراخ "لا حاجة للقول إنني كنت من ضحك أخيراً".

لا يزال رجال البلاط غاضبين وكانت الاستجابة الانتقادية مختلطة (فقد وصفته مجلة "ايكونوميست" بالأكثر لياقة وموضوعية وذات قيمة تاريخية" فيما اعتبر محلل "أوبزرفر" بأن "البطل يظهر بصورة الشخصية المثيرة للشفقة"). ولكن، بما يهم مصلحة الحساب المصرفي للدوق، فقد تهافت عليه الجمهور. وكانت "قصة ملك" على لوائح الكتب الأكثر مبيعاً لسبعة أشهر، وبحسب أندرو لوني، مؤلف كتاب "الملك الخائن" Traitor King، فقد جمع أكثر من 300 ألف جنيه استرليني (365 ألف دولار) أو ما يوازي 9.6 مليون جنيه استرليني (11.6 مليون دولار) اليوم.

أثبت الكتاب أنه مربح للغاية لدرجة أن واليس سرعان ما قررت كتابة مذكراتها الخاصة، مبدئياً بالتعاون مع مورفي أيضاً، على رغم أنهما سيتصادمان لأن الدوقة طلبت منه اعتماد نبرة أكثر خفة وأقرب إلى القيل والقال. وتمت الاستعانة بكاتب آخر هو كليفلاند أموري، ولكنه حرر من واجباته لاحقاً "بعد خلافات متكررة" بحسب تقرير أوردته صحيفة "تايمز" (التي زعمت بأن الثنائي شعر بالإهانة من عنوانه المقترح "من دون عنوان" Untitled الذي بدا أنه أصاب وتراً حساساً).

بالنسبة إلى واليس التي كانت سمعتها مشوهة أكثر من سمعة زوجها (بسبب الإشاعات المستمرة حول ميولها السياسية وكرهها المعلن للنساء)، ستكون إعادة ترميم السمعة من خلال السرد مهمة شاقة. وكانت النتيجة أن كتاب "القلب لديه أسبابه" The Heart Has Its Reasons عام 1956 لم يشهد مبيعات ككتاب زوجها (إذ باع 26 ألف نسخة في الولايات المتحدة مقارنةً مع كتاب الدوق الذي حقق 120 ألف نسخة بحسب لوني). ومع ذلك، كتبت صحيفة "مانشستر غارديان" التي بالكاد يمكن اعتبارها معقلاً للملكية بأن "هذا الكتاب فجر أسطورة واحدة وهي أن الدوقة كانت امرأة مصممة وطموحة".

خلافاً لجهود كل من إدوارد وواليس، استبق كتاب هاري بمجموعة كبيرة من المدونات الصوتية والوثائقيات التي قدمت كل منها روايات جديدة ومتفجرة. بيد أن المذكرات التقليدية ما زالت تحمل ثقلاً رمزياً جدياً وهي تتيح لرجل كان مقيداً سابقاً بتصريحات إعلامية قصيرة بأن يخبر "حقيقته" من دون وساطة وسائل الإعلام التي يكرهها، وكل ذلك من خلال شكل راق وأدبي.

بالتأكيد، كما هي الحال مع كل كتاب مذكرات، تمت إدارة المسائل الحميمية والأصالة على مراحل بذكاء ويعكس خيار هاري للكاتب الخفي نوع القصة التي يود سردها. على غرار عمه الأكبر، عمل مع صحافي أميركي هو جاي أر مورينغر، الفائز بجائزة بوليتزر الذي ساعد في كتابة "أوبن" (مفتوحة) Open، السيرة الذاتية الصادقة بشكل لاذع لنجم كرة المضرب أندري أغاسي حيث تطرقت المذكرات إلى نشأة اللاعب المحترف الصارمة وعلاقته المشحونة بوالده وكيف نشأ ليكره عالم التنس "بشغف مظلم وسري". هل يبدو الأمر مألوفاً؟

ليس كتاب "أوبن" مجرد سحابة مارة، بل هو أشبه بالملحمة. وإن كانت المقتطفات المسربة من "الاحتياطي" صحيحة، يبدو أن هاري ومورينغر تمكنا من خلق سردية صادقة مماثلة مثقلة بالعواطف. وعلى غرار السلسلة الأحدث للأمير على منصة "نتفليكس"، من المحتمل أن يجذب الجمهور الأصغر سناً، الذين نشأوا على الصوت الصريح لتلفزيون الواقع ولا ينفرون من الكلام العلاجي.

هل بوسع مذكرات أن تسقط بيت وندسور؟ لم تفلح الأمور التي كشفتها كتب إدوارد وواليس في ذلك على الإطلاق، على رغم ردود الفعل الصادمة التي أثارتها. وإن كانت المذكرات تقدمان شيئاً فهو مزيد من الوقود الذي يسهم في صنع الأسطورة التي تحافظ على المليكة. بالتالي، فإن الاعترافات في كتاب "الاحتياطي" بعيدة عن إسقاط عائلة هاري ولكنها بالتأكيد ستؤثر في الموقف الشعبي لسنوات مقبلة. لعل من المفيد ألا ننسى ما كتبته فيرجينيا وولف في حكمها على مذكرات أحد أسلاف الأمير هاري الآخرين، ماريا ملكة رومانيا: "تذكروا أن الكلمات خطيرة. يمكن أن تسهم قصيدة في نشوء جمهورية".