كأس العالم - باولو روسي.. السجين المزعوم الذي حرر إيطاليا بأكملها

منذ 2 سنوات 191

"الرجل الذي هزم برازيل زيكو وأرجنتين مارادونا وبولندا بونيك، وفي النهائي ألمانيا رومينيجه".

هكذا وصفته صحيفة "لا جازيتا ديلو سبورت" الإيطالية، لكن هل تعرف أنه قبل خوض هذه البطولة التاريخية مباشرة كان في السجن؟ لا تعرف؟ لا بأس.. فهذا لم يحدث من الأساس.

بدأ روسي مسيرته الاحترافية كجناح أيمن مع يوفنتوس عام 1973، وبعد 3 مواسم بمشاركات قليلة و3 جراحات في الركبة كادت أن تقتل مسيرته في مهدها، خرج اللاعب الواعد مطاردا الحلم في فيشينزا بالدرجة الثانية.

هنا بدأ كل شيء فعليا، حين حوله المدرب جيوفان باتيستا فابري إلى مركز رأس الحربة، صحيح أنه كان خيارا اضطراريا قبل بداية الموسم بساعات، ولكن كان له كل الفضل في إظهار حاسة روسي التهديفية.

هداف الدرجة الثانية الجديد قاد فريقه إلى الأضواء، وواصل تسجيل الأهداف حتى قاد فيشينزا إلى إنهاء تاريخي في المركز الثاني، فقط وراء يوفنتوس الذي كان لا يزال يملكه جزئيا.

في ديسمبر 1977 كان على موعد مع مباراته الأولى بقميص إيطاليا تحت قيادة المدرب إنزو بيرزوت، الذي لم يغفل انطلاقة نجمه السريعة، ليضمه إلى قائمة كأس العالم 1978.

المرة الأولى

وقع منتخب إيطاليا في المجموعة الأولى مع البلد المضيف الأرجنتين، بالإضافة إلى فرنسا والمجر.

وفي المباراة الأولى واجه فرنسا، وظهر روسي في التشكيل الأساسي، ولكن في الدقيقة الأولى تقدم الديوك بهدف برنار لاكومب.

29 دقيقة مضت.. وسجل روسي أول أهداف إيطاليا في هذه النسخة، وأول أهدافه الشخصية في كأس العالم، ثم أضاف ريناتو زاكاريلي الهدف الثاني لينتصر الطليان.

في المواجهة الثانية ضد المجر، واصل روسي إخلاصه لعادة الافتتاح، وسجل الهدف الأول في الدقيقة 34. تبعه روبرتو بيتيجا وروميو بينيتي وفاز منتخب إيطاليا 3-1.

الكل يعرف أن الأرجنتين توجت بالبطولة في النهاية، ولكن إيطاليا تصدرت المجموعة بهدف بيتيجا في المواجهة الختامية، وبمشاركة روسي في كامل دقائق دور المجموعات.

الدور الثاني يلعب بنظام المجموعات أيضا، ولكن الأول يتأهل للنهائي، والثاني يتأهل لمباراة تحديد المركز الثالث، ووقع الطليان هذه المرة مع هولندا وألمانيا الغربية والنمسا.

حافظ روسي على مقعده الأساسي في تعادل سلبي ضد الألمان، قبل أن يسترد حذاء التهديف أمام النمسا ويحسم المباراة بهدف في الدقيقة 13.

ولكن في اللحظة الحاسمة غاب التوفيق، وخسرت إيطاليا أمام هولندا 2-1 لتحتل المركز الثاني في المجموعة، وتلعب مباراة تحديد المركز الثالث ضد البرازيل، التي خسرتها أيضا 2-1.

توتونيرو

"أتاني ديلا مارتيرا (زميله في الفريق) وقال لي: باولو، تعال سأعرفك على شخص. كنت أظن أنه أحد الجماهير، ولكن من كان معه كان كروشياني، أيا يكن اسمه، وشخص آخر (بارتولوتشي صديق كروشياني). صديقي قال لي: هل تعرف، سيوافق أفيلينو على التعادل. فقلت له: أخبرني بما تريد قوله لي ثم سنتحدث بشأنه مع الفريق".

وما لم يكن يعرفه روسي أنه بهذه المحادثة المقتضبة صار طرفا في أكبر شبكة مراهنات غير شرعية وتلاعب بنتائج المباريات في إيطاليا.

في هذه اللحظة كان عالم كرة القدم يعرف روسي جيدا، وبينما كان يتقاسم يوفنتوس وفيشينزا ملكيته، قدم الأخير عرضا خرافيا بقيمة 2.6 مليون ليرة إيطالية للحصول على ملكيته الكاملة، ليصبح أغلى لاعب في العالم بذلك الوقت، ولكن عادت الإصابات لمطاردته مرة أخرى، وهبط الفريق رغم أهدافه الـ 15 في الدوري، لتتم إعارته إلى بيروجيا كي يحافظ على وجوده في الدرجة الأولى.

تلك لم تكن بوابة مجد جديدة، بل بوابة ملعونة دفع الرجل ثمنها ويصر إلى اليوم أنه بلا ذنب.

كانت الأمور تسير بشكل جيد، وتألق روسي كالعادة مع بيروجيا، وخلال معسكر قبل مواجهة أفيلينو وقعت المحادثة المشار إليها. يصر روسي على أن دوره فيما كان يحدث قد انتهى هنا، ولكنه سجل هدفين في هذه المباراة التي انتهت بالتعادل 2-2، ليزعم هذا الـ "كروشياني" أمام المحكمة لاحقا، أن روسي وافق على تحديد النتيجة مسبقا طالما أنه من سيسجل الهدفين، وهو ما أكده بارتولوتشي، ثم نفاه لاحقا في مواجهة مع كروشياني.

أمام كل هذا العبث المفاجئ لم يملك روسي ما يقوله للدفاع عن نفسه سوى تأكيد أن المحادثة لم تستمر سوى لبضع ثوان، وأنه كان يظن أنه أمام حالة فريقين يرتضيان تعادلا مفيدا للطرفين، ملقيا باللوم على زميله ديلا مارتيرا لأنه عرفه على هذان الأحمقان، اللذان اتهماه بتقاسم 8 مليون ليرة معهما.

من هو كروشياني؟ مورد مواد غذائية، وبطل فضيحة "توتونيرو" التي ضربت الكرة الإيطالية عام 1980.

في 1946 أرست إيطاليا نظامها الوحيد المعترف به للمراهنات الشرعية على كرة القدم تحت مسمى "توتوكالشيو"، وظل النظام الأوحد حتى أواخر التسعينات.

ميزة هذا النظام هي صعوبة شرط الفوز، إذ كان يتوجب على المشجع أن يراهن على النتائج الصحيحة لجميع المباريات الـ 12 في الجولة.

الخبر الجيد، أن هذا النظام جعل عملية التلاعب بالمباريات للفوز من خلاله شبه مستحيلة، فمن ذا الذي سينجح في التحكم بمجريات جولة كاملة في مختلف أنحاء البلاد؟

أما الخبر السيئ، فهو أن الخيار الوحيد للمراهنة على مباراة واحدة، كان الوكلاء غير القانونيين.

بدأت المؤامرة عام 1979 على يد مالك مطعم يدعى ألفارو ترينكا ومورد مواده الغذائية.. ماسيمو كروشياني بالطبع.

كان العديد من لاعبي لاتسيو ضمن المترددين على المطعم، وأتت البداية منهم، حيث وافقوا على تحديد نتائج بعض المباريات مسبقا نظير حصة من الأرباح، وبدأت التجربة الأولى في الأول من نوفمبر 1979 بمباراة ودية بين لاتسيو وباليرمو، وبالفعل انتهت بالتعادل، وجرت الأمور كما خطط لها.

ولكن الأيام السعيدة لا تدوم، بحلول فبراير 1980 خسر ترينكا وكروشياني ما يفوق 100 مليون ليرة لأن العديد من المباريات لم تسر وفق الخطة، فتقدما في الأول من مارس بشكوى لدى المدعي العام في العاصمة روما، بأسماء 27 لاعبا و13 ناديا في الدرجتين الأولى والثانية.

وفي 23 مارس 1980 وبمجرد إطلاق صافرة نهاية مباريات الجولة، تم القبض على عدة لاعبين وأسماء بارزة في الرياضة الإيطالية، على رأسهم فيليسي كولومبو رئيس ميلان آنذاك.

وهنا حان وقت الرد على أكذوبة خروج روسي من السجن لإنقاذ إيطاليا في مونديال 1982، فلم يدخل روسي ولا غيره أي سجن، في الواقع كل من تم القبض عليهم أطلقت السلطات سراحهم لاحقا، لأنه لم يكن هناك قانون جنائي في إيطاليا يجرم التلاعب في نتائج المباريات الرياضية.

صحيح أنهم نجوا من طائلة القانون المدني، ولكن من يجيرهم من القانون الرياضي؟

هبط ميلان إلى الدرجة الثانية وبدأت عصوره الوسطى حتى أنقذه سيلفيو بيرلسكوني، وشُطب رئيسه فيليسي كولومبو مدى الحياة. هبط لاتسيو أيضا الذي بدأت خيوط الشبكة تحاك من خلال لاعبيه، وشُطب 3 لاعبين قبل أن يتم تخفيض عقوباتهم إلى فترات إيقاف تتراوح بين 3 و5 سنوات، أما بطلنا روسي، فقد تعرض لعقوبة الإيقاف لمدة 3 سنوات، تم تقليصها لاحقا إلى سنتين فقط.

البطل المخلِّص

"لم أره منذ فترة. اكتسب بعض الوزن كما قالوا لي، فقد كان بعيدا لعام ونصف. لأول وهلة كانت تبدو موهبته على حالها، ولكن انطلاقاته السريعة القاتلة بدأت تبدو كأنها معادة بالتصوير البطيء. ذهبت لرؤيته بعد ذلك، احمر وجهه ومنحني ابتسامة خافتة، لم أكن أعرف أي منا كان يشعر بالإحراج أكثر".

هكذا روى إنزو بيرزوت مشهدا من تدريبات الفريق الاحتياطي ليوفنتوس عام 1981. يوفي أعاد شراء نجمه السابق قبل عام من نهاية إيقافه، وأبلغه بأنه سيتدرب مع الآخرين، بل أكثر منهم وفقا لما رواه روسي، وإذا كان يوفنتوس لم يفقد فيه الأمل، فكيف لمفجر مجده على الساحة الدولية أن يتخلى عنه؟

يمكن القول بإن بيرزوت كان قد اتخذ قراره قبل أن يحضر لمشاهدة روسي من الأصل، وبالتالي وعلى الرغم من كل الظروف المأساوية التي عاشها المهاجم الإيطالي في ذلك الوقت، فإن قرار الاستدعاء لخوض كأس العالم 1982 هو الشيء الوحيد الذي لم يفاجئه.

ولكن في الحقيقة، لم يكن هناك الكثير ممن يشاطرون بيرزوت نفس الاعتقاد.

اختيار روسي الذي بالكاد لعب 3 مباريات في الدوري الإيطالي وسجل هدفا وحيدا بنهاية إيقافه قبل كأس العالم، جاء على حساب روبرتو بروتسو هداف الدوري ونجم روما.

بيرزوت لم يجلسه بديلا لروسي، بل تركه في الديار بينما سافر هو والعائد كشبح من ذاته الماضية إلى إسبانيا، مفضلا عليه اسما أقل بريقا مثل فرانكو سيلفاجي، وللأمانة كان خيارا منطقيا للغاية، إذ كان بيرزوت يعرف جيدا أنه كلما أهدر روسي فرصة، ستصيح دولة كاملة مطالبة بنزول بروتسو، ولم يكن روسي بحاجة للمزيد من زعزعة استقرار غير قائم من الأساس.

أغضب جماهير روما، واصطحب مهاجما لعب 3 مباريات في عامين وله تاريخ حافل مع الإصابات، وبديله ليس الخيار الأفضل. بكلمات أخرى، كان يتوجب على بيرزوت وروسي سرعة الرد لإخماد هذا البركان قبل أن يثور في وجهيهما، ولكن، 3 تعادلات في دور المجموعات مع بولندا وبيرو والكاميرون، بالكاد كانت كافية للتأهل لأن إيطاليا سجلت هدفا أكثر من الكاميرون، في ظهور لباولو يندرج وصفه بالخافت تحت بند المجاملة.

"بالنسبة للصحافة في الديار، كان روسي طائرا بجناح مكسور ولا يمكنه الطيران، ولكن بيرزوت كان يعتقد عكس ذلك. لقد أدرك وجود عنقاء بداخل روسي، عنقاء ستنهض من رماد توتونيرو".

هكذا وصف تقرير "إي إس بي إن" هذه الحالة، وتواجد في المنتخب الإيطالي في مجموعة مميتة مع الأرجنتين حامل اللقب، والبرازيل الأكثر تتويجا. مرة أخرى لم يسجل روسي أمام الأرجنتين، في المباراة الشهيرة التي حولها المدافع كلاوديو جينتيلي إلى حلبته الخاصة لضرب مارادونا، ثم فازت البرازيل على الأرجنتين بهدف أكثر (3-1)، ليجد الأزوري نفسه بلا مفر سوى الفوز على البرازيل لحجز مقعده في نصف النهائي.

وبالفعل، نهضت العنقاء في قلب مدينة برشلونة، وأحرقت منتخب البرازيل بـ "هاتريك" أنهى المباراة بنتيجة لصالح الطليان رغم هدفي سوكراتيس وفالكاو، ومن هنا صار المونديال كقطعة من الحلوى.

هدفان في شباك بولندا بنصف النهائي، ثم هدف في شباك ألمانيا بالنهائي الذي انتهى 3-1 لصالح إيطاليا. في 3 مباريات فقط، صار باولو روسي هداف كأس العالم بـ 6 أهداف، وبطل اللقب الأول منذ عام 1938، واللقب الثالث ليعادل البرازيل آنذاك في الصدارة العالمية.

أثر روسي الذي حول كل الشكوك إلى احتفالات عارمة في شوارع إيطاليا، امتد لدرجة رفع كل عقوبات الإيقاف غير المنتهية عن اللاعبين المتورطين في فضيحة توتونيرو. أخذوه معهم للجحيم، فغادره وأعادهم جميعا للحياة.

البقية للتاريخ

والبقية لا تهم، في هذه اللحظة صار "بابليتو" بطل الأمة وهدافها التاريخي في كأس العالم بـ 9 أهداف. لاحقا عادله روبرتو بادجيو وكريستيان فييري، ولكن لم يتجاوزه أحد.

أكمل روسي مسيرته مع يوفي وكللها بدوري أبطال أوروبا عام 1985، وانتقل لاحقا إلى ميلان، ورغم وجوده في قائمة مونديال 1986، إلا أنه لم يلعب دقيقة واحدة بسبب الإصابة ونقص اللياقة، وغادرت إيطاليا دور الـ 16 على يد فرنسا، ثم أسدل روسي الستار على مسيرته في العام التالي مع هيلاس فيرونا.

وأيا كانت الأسباب، فقد آثر الرجل الأسطوري مواصلة حياته دون أن يفقد من رصيده في وظيفة المدرب، حتى أسدل سرطان الرئة الستار على حياته في التاسع من ديسمبر 2020. رحل بابليتو عن عمر يناهز 64 عاما، وبقي، وسيبقى الأثر.

المصادر:

Storiedicalcio

Reuters

ESPN