يتميز شرق السودان تحديداً بولاياته الثلاث البحر الأحمر وكسلا والقضارف بتعدد القبائل وتمسكهم بالعادات والتقاليد والموروثات الأصيلة، التي تعد مفخرة ومكملاً لنمط حياة أهل الشرق.
وتحرص الأسر في تلك الولايات الثلاث على تقديم القهوة "الجبنة" بشكل أساس، وبكل طقوسها التي تختلف عن بقية ولايات السودان، إلى الضيف، دلالة على كرم القبيلة أو أهل المنزل، أيضاً لها وجود مترف في الأتراح والأفراح وتجمعات الشباب والنساء والرجال، ولا تكتمل جلسات السمر والأنس وفض النزاعات إلا بوجود القهوة أو "الجبنة".
أهل الشرق يفضلون شرب الجبنة بالبهار ويطلق عليه عند بعض القبائل "أوشار"، أي قهوة بالزنجبيل والهبهان (الهيل) والقرفة، ويستخدم الزنجبيل بكميات كبيرة في القهوة اعتقاداً بأنه يقي من الأمراض، وهناك من يفضل البن الكلموني لتميزه لمزاقه المميز. وجرت العادة أن يحتسي سكان هذه المنطقة بخاصة قبائل "البجا" أربع مرات في اليوم، في الصباح الباكر قبل التفرغ للعمل على أن يختم بها اليوم عند المساء وسط الأبخرة المتصاعدة من بخور الجاولي، وهو أكثر أنواع البخور عشقاً، إلى جانب بخور العدني، كناية عن مدينة عدن اليمنية.
معظم المقاهي في ولايات شرق السودان يديرها رجال (اندبندنت عربية - حسن حامد)
منافسة النساء
المعروف في ولايات السودان أن النساء هن من يمارس مهنة صناعة القهوة، لكن في شرق السودان ينافس الرجال النساء في هذه المهنة الرائجة ذات الدخل الوفير، وإن كان معظم المقاهي بولايات شرق السودان يديرها رجال، هناك أيضاً على وجه الخصوص مقاه شهيرة ببورتسودان يملكها رجال يرحبون بالزوار بعبارة "حبابكم عشرة بلا كشرة"، والمقصود بهذه العبارة بصدر رحب، وهو يرتدي الزي المعروف لأهل الشرق من جلابية وصديري وسروال، وأكثر ما يميزه الشعر الكثيف وعلى جانبه يوضع الخلال (المشط). في هذا السياق، أوضح السماني ود ناصر، صاحب أشهر وأقدم قهوة ببورتسودان، أن يومه يبدأ "في الصباح الباكر بتهيئة المكان وتنظيفه ووضع المقاعد المصنوعة من الحبال أو سعف الدوم والطاولات الخشبية بشكل دائري، ثم البدء في عمل القهوة بغسل البن ووضعه في إناء خاص بالقلي مصنوع من الفخار. وأثناء عملية التحميص يكون الحضور كثيفاً لاستنشاق رائحة البن التي لا يكتمل كيف أهل الشرق إلا بها. وبعد التحميص تنزع عنه القشرة الخارجية ثم يطحن بواسطة مطاحن ضخمة ولا يشترط أن يكون ناعماً، بعدها يوضع إناء الجبنة على النار وعادة ما توقد على الأرض أو موقد يبنى من الطين على ارتفاع معين من الأرض مما يجعل النار متقدة طول اليوم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تابع ود ناصر شارحاً "تضاف إلى الماء بهارات القهوة التي تضفي مذاقاً على الجبنة، ثم البن المطحون وتترك قليلاً لمزيد من الغليان وتصفى بعد ذلك وتسكب في إناء مصنوع من الحديد أو الفخار بأحجام مختلفة، إلى جانب أدوات شرب القهوة الأخرى، والكل يفضل شربها بالفنجان وإذا أتى إلى المقهى شخص طالباً القهوة بكوب يعرفون أنه لا ينتمي إلى أهل الشرق".
وأضاف صاحب المقهى أن "مرتادي القهوة من مختلف الفئات العمرية وعادة ما يجلسون في شكل دائرة، وهناك من يحب شرب القهوة وهو مستلق على الأرض"، مؤكداً مهما زادت الأعباء المعيشية وارتفعت معها كلفة مكونات القهوة وزاد سعرها، فإن أهل الشرق لا يتركون موروثاتهم.
أهل الشرق لا يتركون موروثاتهم مهما زادت الأعباء المعيشية (اندبندنت عربية - حسن حامد)
عشق وكيف
المواطن السوداني ياسر عبدالحفيظ أوضح أن "يومه يبدأ بشرب القهوة قبل التوجه للعمل، بيد أن أهل الشرق جميعهم يحبون ارتشاف القهوة بلا عجل وتعد جلستها وطقوسها من أهم عاداتهم مع الحكاوي وسرد القصص. والأهم أنها تعتبر رمزاً للكرم، ومن يرفض مرافقة أصدائقه أو أفراد لاحتساء فنجاء قهوة في أحد المقاهي يثير استغراب وتعجب محيطه.
وأردف عبدالحفيظ "عند المساء نجتمع مرة أخرى في القهوة ذاتها لوجودها بالقرب من منزلنا، وتطول جلساتنا ليلاً لاسيما وصول الأصحاب والأحباب تباعاً"، لافتاً إلى أن المقاهي أصبحت أشبه بمنابر ثقافية وسياسية، إذ أصبح الحديث في تجمعات المقاهي يركز على ما آلت إليه الأوضاع في البلاد التي تمر بفترة عصيبة من نزوح وتشرد، وقد يستمر الحديث لوقت متقدم من الليل.
روابط اجتماعية
الباحث في تراث البيجا أدم أوبشار أوهاج أشار إلى أن "الجبنة كما يحلو لأهل الشرق تسميتها، تعد من الموروثات التي تتناقلها الأجيال، وأدواتها المزخرفة تلازم إنسان الشرق في حله وترحاله. ومسمى الجبنة يختلف من قبيلة لأخرى، لكن عند معظم القبائل تسمى الجبنة (ماهيت)، وهي تصنع من الطين وتمسح بالزيت أو السمنة، ثم يقلى فيها اللبن لتكتسب اللون الأحمر" .
أدوات القهوة المزخرفة تلازم إنسان الشرق في حله وترحاله (اندبندنت عربية - حسن حامد)
وتابع أوبشار قائلاً "القهوة منذ النشأة وإلى يومنا هذا أساسية في القرى والحضر، وتعتبر أنها تقوي روابط الأسر داخل المنازل وفي مجالس القبائل باعتبار أن جلساتها تجمع الأحباء في حلقات نقاش وحوار".
وأضاف الباحث في التراث أن "تناول القهوة له أدب اجتماعي في مجالس القبيلة، فعادة تتناول من الجهة اليمنى للمجلس وتتجه إلى ناحية اليسار، أما على نطاق ضيق فيفضل أن تكون المجموعة من ثلاثة أشخاص إلى سبعة، يتناول الفرد نحو ثلاثة أكواب (فنجان) أو أكثر حتى لا تفقد القهوة مذاقها".
وكشف عن أن أكثر القبائل التي تتناول القهوة هم الناطقون بلغة البجاوية، إلى جانب قبائل تسكن على حدود أريتريا متمثلة في البني عامر والحباب وغيرها من القبائل، لكنها تختلف في العادات والطقوس، منوهاً إلى أنه من خلال تجواله في ولايات السودان المختلفة تأكد أن شرب الجبنة انتشر بصورة واسعة مع اختلاف الأدوات والطقوس، فضلاً عن أن الجميع يتفق على أنها عادة اجتماعية محببة ومسلية.