قمة جدة... إقليمية عربية جديدة

منذ 1 سنة 204

دخان كثيف يلاحق سماء خرائطنا العربية، أنين الخرطوم يتزامن مع صافرات الإنذار في الأراضي المحتلة، سألني طبيب أمراض جلدية، مهموم بالشأن السياسي: هل تتفق معي بأن الخرائط العربية لا تزال تحاول أن تتخلص من آثار الحروق التي لحقت بها، منذ ما يسمّى «الربيع العربي»؟

بابتسامة ودهشة، قلت له نعم... فعواصمنا العربية أصيبت بحروقٍ من الدرجة الثالثة، أي حروق غائرة، والآن في مرحلة تلقّي المراهم والمرطّبات، والمضادات الحيوية، حتى لا تترك هذه الحروق تشوّهات في الجسد العربي.

عادت سوريا إلى جامعة الدول العربية، واليمن يبدأ مساراتٍ جديدةً نحو الاستقرار، بينما العراق يلتقط أنفاسه، وتونس تطوي صفحات عشريّتها السوداء، التوقيت مغاير، معادلات إقليمية وحسابات جديدة، العرب يريدون إحراز أهداف بلاعبين عرب، ليست هناك رفاهية للوقت المستقطع، والبدائل لم تعد اختيارية، العالم مشغول بصراعاته ومصالحه، نظام عالمي يقوم على نظرية «البقاء للأقوى». الولايات المتحدة تصارع للحفاظ على لقب «الأستاذ»، وأوروبا تبحث عن الاستقلال الاستراتيجي، والصين تستلهم عزيمة ماوتسي تونغ، بفتح نوافذ مستقبلية في الشرق الأوسط، وروسيا «البوتينية»، تؤكد إخلاصها لميراث جوزيف ستالين. القوى الفاعلة عالمياً، يعاد ترتيبها على رقعة الشطرنج.

أين العرب من كل هذا؟

«القمة العربية»، المقرر انعقادها اليوم في جدة بالمملكة العربية السعودية، تحمل دلالات وبصمات غير مسبوقة طوال أربعة عقود مضت، فللمرة الأولى يجتمع القادة، وكل الشواهد تؤكد تراجع أي تأثيرات خارجية في القرار العربي، دمشق؛ نموذج يؤكد ذلك، قرار عودة سوريا إلى البيت العربي، لم يأتِ على هوى بعض القوى الإقليمية والدولية، لم تهتز الإرادة العربية بوجود «فيتو»، من هنا أو هناك.

اتصالات ومحاولات من قوى دولية، لم تفلح في تغيير المسار تجاه سوريا، الرسالة واضحة بعلم الوصول إلى مَن يهمه الأمر. المساحات المشتركة بين العواصم العربية تكتسب زخماً يوماً بعد يوم. على طاولة القمة، هذه المرة سنشهد نقاشات تؤكد الإرادة والعزيمة، وسنسمع عن مصطلحات من نوع «الإقليمية العربية الجديدة»، و«القلب العربي الصلب»، و«دول الإصلاح العربية»، جميعها مفردات إيجابية تشير إلى أن قطار العرب انطلق نحو تكتل جديد، يدير المصالح العربية من دون النظر إلى أي قيود خارجية، وأن العرب يستطيعون صياغة مقاربات جديدة للمشكلات والأزمات، من دون الانتظار لوصفات حلول مستوردة. أزمة اليمن تتحدث عن نفسها، فقد نجحت الإرادة العربية في تقريب وجهات النظر بين الأطراف الفاعلة، بشأن ملف الأسرى، وبشأن تثبيت الهدنة، الحل عربي بامتياز. لم يختلف الأمر كثيراً في العراق، فلم تعد واشنطن صاحبة تأثير في ترتيب أوراق المكونات العراقية.

الشعوب العربية نفسها، أدركت أن الاستقرار لن يأتي بدعم خارجي، وأن التماسك الداخلي لن يستطيع أحد السطو عليه، ملامح الإقليمية العربية الجديدة، نراها قادمة بقوة، تترجمها الأحداث، وتؤكدها القدرة على اتخاذ القرار، علمتنا التجارب أنه لا أحد ينجو منفرداً. ارتفاع منسوب المساحات المشتركة يقوّض أي محاولات للتفرقة والتأزيم بين الدول العربية. العواصم تعلمت الدرس. يجب ألا تكون الملاعب عربية واللاعبون غير عرب، فالسنوات الخمس الماضية، كشفت مدى الأخطار التي تُحاك ضد الأمن القومي العربي، نتيجة لغياب العمل العربي المشترك.

الخامس من يناير عام 2021، تحدثت مدينة «العلا»، فأنصت العرب جيداً لأهمية تصحيح المسارات من أجل المصالح الوطنية، تصافح المختلفون، أصبحنا على أعتاب مرحلة جديدة، جرت تحت الجسور مياه كثيرة.

مباحثات ومفاوضات، انطلقت من استراتيجية «الأيادي الممدودة»، والآذان الصاغية لتبريد الصراعات مع دول الجوار غير العربية، وتصفير المشكلات العالقة بين الدول العربية، والدول الشرق أوسطية، هذا فضلاً عن أن هذه القمة العربية، تنعقد في ظل قواعد حاكمة لترتيب أولويات العمل العربي، فوسط التحديات العالمية الكبرى، بات الاقتصاد والتنمية والازدهار، وقضايا التغير المناخي، ملفات تحتل الصدارة على طاولة النقاش. الحلم العربي يتجدد، العالم يدرك جيداً أهمية الإقليم العربي في المعادلة الدولية الجديدة، مرحلة ما بعد الحرب الروسية - الأوكرانية، وجائحة «كورونا»، ومشكلات سلاسل الإمداد، أعطت قيمة مضافة لجغرافيا المنطقة. سلطة الطاقة أنصفت الخرائط العربية، أدرك كبار العالم القيمة الجيوسياسية والجيواقتصادية للعرب، وأدرك العرب ـ أنفسهم ـ المكان والمكانة، وأنهم لن يكتفوا بالمشاهدة على مسرح الأحداث العالمية، بل سيفرضون إرادتهم في صياغة المعادلات الدولية الجديدة، وأنهم يمتلكون مقومات تجعل الفرصة أمامهم متاحة لكتابة عقد عربي جديد، يحقق مفردات مستقبلية لمقدرات الدول والشعوب، التي تتعلق بصياغة الأمن القومي العربي، والأمن الغذائي، وأمن الطاقة، هذه الأركان الثلاثة من شأنها ترسيخ مفهوم الدولة الوطنية واستقلال القرار العربي.

إذن، نستطيع القول إننا هذه المرة أمام قمة عربية مغايرة ومختلفة، من حيث الأدوات والأهداف، قمة انطلقت من رصيد الإنجازات العربية، وفي ظل مكتسبات جديدة لبعض العواصم الشقيقة، وتنتظرها ملفات مهمة أيضاً مثل، الملف السوداني، الذي يشكل التحدي الأحدث للأمة العربية.