تحظى المقابر في الجزائر باحترام شعبي ونظرة تقديس، إذ ينسب عدد كبير منها إلى "أولياء صالحين"، لكن تبقى مقبرة "العالية" أشهرها لارتباطها بالرؤساء والزعماء الثوريين والمقاومين المدفونين تحت ترابها، وتبقى قصة صاحبتها أيضاً لها جزء من الصدى الذي بلغته عربياً ودولياً، فمن تكون هذه "العالية" التي تثير قصتها إعجاب الجزائريين وافتخارهم؟
مقبرة "العالية" التي تعد واحدة من أهم الشواهد التاريخية وأهم بقعة مقدسة في البلاد، تنسب إلى العالية بنت محمد بوترعة المولودة عام 1886 بمدينة سور الغزلان بوسط البلاد، وكانت من أثرياء الجزائر ومن النساء اللاتي سخرن ثروتهن لخدمة الفقراء والمحتاجين، واشترت قطعة أرض ومنحتها إلى السلطات الفرنسية عام 1930 بغرض جعلها مقبرة لدفن الموتى المسلمين مجاناً، حيث كانت إدارة الاستعمار الفرنسي تفرض إتاوات تعجيزية على الجزائريين من أجل دفن موتاهم.
كما أنشأت "العالية" مدرسة بمالها الخاص في منطقة سيدي عيسى بمحافظة المسيلة على تخوم الصحراء لتدريس الفتيات اليتيمات واشتهرت بالأعمال الخيرية وبكثرة إنفاقها في سبيل الله وفي خدمة الفقراء ومساعدة المحتاجين وكفالة الأيتام، مما جعلها تحظى باحترام المجتمع.
ثرية فاضلة
يتردد اسمها كلما ودعت الجزائر شخصية تاريخية أو رئيساً أو زعيماً، وهي التي عملت في مجال التجارة لتتوسع ثروتها وتملك آلاف الهكتارات من الأراضي في العاصمة ومسقط رأسها مدينة سور الغزلان وبوسعادة والجلفة وغيرها، تزوجت من مدرس اسمه كرميش محمد من مدينة بوسعادة كان يشتغل في العاصمة الجزائر، لكنها لم تنجب في حياتها.
عند الأعياد الدينية والمناسبات التراثية التقليدية تقيم الولائم والذبائح للفقراء والمساكين وتكسيهم وتطعمهم، وكان الجميع يثنون على فضلها وأخلاقها وكرمها، إذ إن بيتها كان مقصداً لكل من لا مأوى ولا مسكن ولا مطعم له.
وافتها المنية عام 1932 وفق ما هو مقيد في السجلات الرسمية، لكن هناك روايات متضاربة في كتب التاريخ، تقول إحداها إن "العالية" لم تمت في سن الأربعينيات، بل كانت عجوزاً طاعنة في السن، وإن ليلة وفاتها كانت مباركة، إذ وجدها جيرانها مسجاة بكفنها ورائحة المسك تعبق في المكان.
كما تذكر رواية أخرى أن "العالية" ماتت مسمومة عام 1932 والسبب أهلها الذين دسوا لها السم للسيطرة على أملاكها الطائلة، ودفنت في مسقط رأسها بمدينة سور الغزلان وكتب على قبرها الولية الصالحة العالية حمزة.
"المقبرة الرسمية" للدولة
مؤسس الدولة الجزائرية الأمير عبدالقادر الذي كتب على قبره "لو جمعت فرنسا سائر أموالها، ثم خيرتني بين أن آخذها وأكون عبداً، وبين أن أكون حراً فقيراً معدماً، لاخترت أن أكون حراً فقيراً" والمقاومة الأمازيغية لالة فاطمة نسومر والرؤساء الراحلون أحمد بن بلة وهواري بومدين والشاذلي بن جديد ومحمد بوضياف وعلي كافي وعبدالعزيز بوتفليقة، ومن زعماء ثورة التحرير، العربي بن مهيدي وعميروش آيت حمودة، ومن الفنانين وردة الجزائرية، إضافة إلى الوزراء والسفراء والعلماء، كلهم مدفونون في أرض "مقبرة العالية" أو "المقبرة الرسمية" للدولة الجزائرية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعتبر مربع الشهداء الذي يضم جثامين الرؤساء وغيرهم من الزعماء الثوريين من مقاومين ومقاتلين، أحد المزارات المهمة للقادة الأجانب الذين يزورون الجزائر ليضعوا باقات من الورود على أرواح الشخصيات المهمة في تاريخ البلاد.
مقبرة "العالية" أو "جبانة العالية" كما يسميها سكان العاصمة التي تتربع على مساحة 80 هكتاراً، تقع في محافظة الجزائر قرب المطار الدولي، وفيها أكثر من 250 ألف قبر معظمها للمسلمين وجهات أخرى مخصصة للمسيحيين والجنود البريطانيين والأميركيين الذين قضوا في الحرب العالمية الثانية، وكذلك قبور مخصصة للعمال الصينيين الذين توافدوا على الجزائر بعد عام 2000، إضافة إلى جهة مخصصة لـ"الإباضية"، وهي فئة من الجزائريين تعتمد المذهب الإباضي.
وكذلك دفن الفقراء والبسطاء من عامة الناس في "جبانة العالية"، مما جعل بعضهم يصفها بمقبرة "الرؤساء والبؤساء"، حيث تستقبل المقبرة كل يوم جمعة جموعاً من المواطنين الذين يأتون للترحم على أرواح الشهداء وجنائز يومية ومراسم دفن لأشخاص من العامة.
رقمنة المقابر
وتمنح الحكومة اهتماماً لافتاً للمقابر، إذ أنهت مصالح محافظة الجزائر رقمنة سجلات القبور والموتى على مستوى مقبرة "العالية" انطلاقاً من عام 1840 وصولاً إلى فترة الاستقلال، كما أمرت وزارة الداخلية في وقت سابق بإنشاء قاعدة معطيات وطنية خاصة بالمقابر تحوي جميع المعلومات المتعلقة بالمقابر لمعالجتها واستغلالها، قصد اتخاذ تدابير استعجالية ضد بعض الظواهر السلبية التي تعرفها هذه الأماكن المقدسة، وطالبت بإحصاء عدد المقابر الإسلامية والأوروبية وإعداد بطاقة تعريفية لكل مقبرة على حدة تتضمن المعلومات مع ذكر العمليات المبرمجة المتعلقة بالمقابل.
ومن أجل حفظ حرمة الموتى وتأمين المقابر من الاعتداءات التي وصلت حد النبش وتخريب قبور بأكملها من أجل دس "سحور" و"طلاسم" من قبل بعض المشعوذين وحتى سرقة أعضاء الموتى لاستعمالها في هذا الغرض، تم الاعتماد على تجهيز المقابر بكاميرات مراقبة.