قرارات صعبة في الكرملين

منذ 1 سنة 203

ليس سهلاً أن تكون في هذا الموقع. كل قرار يحسب عليك. النجاح نجاحك والفشل فشلك. وفي هذه الحالة تكون نتيجة الفشل بحجم هزيمة من العيار الكبير الذي يمكن أن يدفع ثمنه بلد بكامله.

والبلد ليس دولة عادية. إنها روسيا. بلاد بطرس الأكبر وكاترين الثانية، وريثة الاتحاد السوفياتي والترسانة النووية والإرث الإمبراطوري الثقافي والديني والتاريخي. والرجل ليس عادياً. فهو القادم من مطبخ الاستخبارات، حيث كانت تُرسم الحسابات الدقيقة وتقاس القرارات بالموازين الصارمة، وهو الذي تقوم على كتفيه مهمة إحياء «مجد» بدّده سلف له في غفلة من التاريخ.

كيف حصل ما حصل إذاً؟ كيف تحولت «عملية خاصة» كان مقدراً لها أن تنتهي خلال أسبوعين إلى حرب تجاوزت الخمسمائة يوم. ولا يعرف أحد متى تصل إلى خاتمتها الموعودة؟ كيف ينتهي الأمر أن يصبح محرّماً على رئيس روسيا الخروج من حدود بلاده، كي لا يواجه خطر الاعتقال من جانب هيئة لم يكن يَحسب لها أي حساب، تسمي نفسها «المحكمة الجنائية الدولية»؟ لم يحصل مثل هذا من قبل لا مع خروتشوف في زمن «خليج الخنازير» ولا مع بريجنيف في زمن غزو أفغانستان. كرامة روسيا على المحك وسمعة رئيسها تتعرض للإهانة.

رئيس جنوب أفريقيا، الدولة المضيفة لقمة دول «بريكس» في الشهر المقبل، أدرك ما تعنيه محاولة اعتقال رئيس روسيا بتهم جنائية. الرئيس رامافوزا قال إن مثل هذا العمل لو حصل سوف يعني حرباً مع روسيا. تجنّب إحراج الضيف والمضيف انتهى بحل وسط قضى بأن يقوم الوزير المطيع لافروف بتمثيل بلاده، على أن يكون حضور بوتين من بعيد عبر الشاشات، حيث يبتعد خطر الاعتقال.

دعك من «بريكس» واجتماعاتها و«الجنائية» ومحاكماتها. بالقرب من جدران الكرملين، لا يزال يقيم صداع عميق لم تنفع معه كل الأدوية، اسمه يفغيني بريغوجين. أطلق انقلاباً على المؤسسة العسكرية وعلى طريقة إدارة «العملية الخاصة». وكان يمكن أن ينتهي الانقلاب بانتصار، غير محسوب العواقب، لولا محاولة إنقاذ جاءت في اللحظة الأخيرة من مكان مفاجئ اسمه بيلاروسيا ومن صديق للرجلين اسمه لوكاشينكو.

لا يمكن أن تسمى وساطة رئيس بيلاروسيا انتصاراً لبوتين، بأي مقياس. على العكس، اضطر الرئيس الروسي لتقديم تنازلات لخصمه الجديد وصديق السنوات الماضية. انقلاب من هذا النوع كان أشبه بتمرد على قيادة الجيش، قُتل فيه 13 طياراً روسياً في المواجهات التي وقعت، وكان يفترض حسب القانون الروسي أن ينتهي ما ارتكبه زعيم «فاغنر» بسوقه إلى السجن المؤبد. بدلاً من ذلك وجد بريغوجين نفسه ضيفاً على الكرملين مع رجاله. وكانت المفاجأة إعلان بوتين أنه طلب من بريغوجين التخلي عن مقاتليه وسلاحه وانضمامهم إلى الجيش الروسي، لكن «الطباخ» رفض أوامر معلمه. هكذا أصبح بريغوجين في وضع يستطيع أن يقول: لا لبوتين. المفاجأة الثانية والأكبر كانت ظهور بريغوجين في شريط فيديو مع عدد من مقاتليه (قدر عددهم بخمسة آلاف) في بيلاروسيا، يدعوهم للانتقال للقتال في أفريقيا، «لأن ما يحصل على جبهة أوكرانيا معيب للجيش الروسي، وعندما تنتهي هذه الإهانات يمكن أن نعود إلى تلك الجبهة». لا تراجع إذاً عن الخطاب السابق الذي رفع سقف الانتقادات ضد وزير الدفاع شويغو ورئيس الأركان غيراسيموف بسبب إدارة الحرب. التراجع جاء من بوتين الذي ترك بريغوجين حراً، ورضخ لوساطة رئيس بيلاروسيا.

زعيم «فاغنر» ليس الوحيد في ميدان القتال الذي يرفع الصوت ويوجه الانتقادات لإدارة «العملية الخاصة». ضباط آخرون بدأوا يفعلون ذلك، وأصواتهم تسمع داخل روسيا، فيما وعود الانتصار السريع على جبهة أوكرانيا تتبدد وأعداد القتلى تزداد والكلفة الاقتصادية ترتفع. أحد الجنرالات في ميدان المعركة إيفان بوبوف قال: قوات أوكرانيا لم تستطع اختراق صفوفنا من الأمام لكن قيادتنا ضربتنا من الخلف. قائد آخر شارك في الهجمات في شرق أوكرانيا منذ عام 2014 يقول إن تفكك الجيش الروسي بشكل غير منظم أصبح أقرب مما يتوقع كثيرون...

في وضع صعب تزداد حاجة بوتين إلى القرارات الصعبة، ويصبح اللجوء إلى التصعيد مع الخارج أهون المخارج. تصدير الأزمات ليس اختراعاً جديداً عندما يكون التصدع هو عنوان جبهة الداخل. في هذا الإطار يمكن أن يوضع قرار الرئيس بوتين منع أوكرانيا من تصدير حبوبها وفرض حظر على دخول كل البواخر إلى موانئها، بحجة أنها تنقل مساعدات عسكرية لجيشها. لا وساطة الرئيس التركي نفعت ولا تحذير الأمين العام للأمم المتحدة من أزمة غذاء عالمية. «عليّ وعلى أصدقائي» هو عنوان المواجهة الجديدة، في محاولة من الرئيس الروسي لتصدير المأزق الذي تواجهه قواته في حربها على أوكرانيا. وتأكيد جديد على أن مسرح الحرب بين روسيا وأوكرانيا يتسع، بحيث لم يعد من المبالغة أن نطلق عليها «حرباً عالمية» تزيد مخاطرها يوماً بعد يوم. فالرجل المقيم في الكرملين لن يقبل مواجهة الانكسار على جبهة زيلينسكي. وإذا كان الغرب يرسم لروسيا مصيراً بهذا الحجم، فإن مصير الأمن العالمي لن يكون بمنأى عن ذلك.

حرب كبيرة أصبحت بحاجة إلى وسطاء من العيار الثقيل.