قتلٌ للبقاء أم للدفاع عن النفس؟

منذ 1 سنة 147

لو شاء المرء أن ينظر بواقعية إلى «الدرس» الذي تريد إسرائيل تلقينه لجيرانها وللعالم من خلال ما ترتكبه في قطاع غزة بحق المدنيين، لما استطاع الخلوص إلا إلى نتيجة واحدة؛ أن القوة المفرطة وأعمال القتل هي الضامن الوحيد لاحتفاظ إسرائيل بـ«الحق في البقاء»، وأن التسويات والاتفاقات، والضمانات الدولية، لا توفر الاطمئنان الكافي للإسرائيليين لضمانة البقاء هذه.

يقول قادة إسرائيل إنهم يقومون بالرد على ما ارتكبته حركة «حماس» مما عدّوها «مجازر» بحق مدنيين وعسكريين إسرائيليين في عملية اقتحام الحدود يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. واتفقت جهات دولية كثيرة على أن الرد الإسرائيلي ليس متناسباً مع العملية التي ارتكبتها «حماس»، وأن كثيراً من أعمال الحرب الإسرائيلية تشكل خرقاً للقوانين الدولية التي ترعى التعامل مع المدنيين خلال الحروب. غير أن قادة إسرائيل رفضوا أي انتقاد لعملياتهم، معتبرين ذلك تبريراً لحركة «حماس». وبلغ بهم الأمر انتقاد الأمين العام للأمم المتحدة، الذي قال إن عملية 7 أكتوبر «لم تأتِ من فراغ»، رغم أنه أضاف أن المظالم التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني لا تبرر هجمات «حماس» الفظيعة، كما سمّاها. فالقانون الدولي يتيح للدول الدفاع عن نفسها بالطرق التي لا تعرّضها للإدانات. كما أن من الصعب العثور على دولة ترى أن اختراق حدودها وارتكاب أعمال قتل من النوع الذي قامت به «حماس»، يشكل تهديداً وجودياً لها، مثلما استنتجت إسرائيل.

رأى بنيامين نتنياهو أن إسرائيل تخوض في غزة «حرب استقلال ثانية»، والرئيس الإسرائيلي هرتسوغ تذكَّر نصيحة ديفيد بن غوريون، أول رئيس لحكومة إسرائيل، بأن الواجب الأول لقادة إسرائيل هو المحافظة على بقاء دولتهم.

لهذا القلق الوجودي أسبابه التاريخية، التي لا أظن أن هناك دولة أخرى تعانيها بالقدر الذي تعانيه إسرائيل. لقد شكّلت مسألة حق إسرائيل في البقاء على الأرض التي قامت عليها منذ عام 1948 هاجساً للإسرائيليين منذ ذلك الحين. ظروف «الولادة» لم تكن طبيعية للدولة اليهودية حديثة العهد، وظلت هذه الظروف عنصر قلق في الضمير الباطن للقادة الإسرائيليين ولشعبهم على حد سواء. وفي خلفية هذا القلق ظل الشعور بعدم الاستقرار، حتى بعد التسويات والاتفاقات التي توصلت إليها إسرائيل مع دول عربية ومع الفلسطينيين أنفسهم. وكان «الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود» مطلبها الرئيسي في هذه الاتفاقات.

لم يكن تهجير الفلسطينيين من بيوتهم مسألة بسيطة يمكن أن يطويها النسيان، وقد تبين مع مرور العقود أنها بقيت في الذاكرة الفلسطينية، مثلما بقيت في الذاكرة الإسرائيلية كذلك. وكانت الحروب المتعاقبة مع العرب والانتفاضات المتتالية مع الفلسطينيين تحيي العقدة الإسرائيلية الدائمة: لماذا يريدون اقتلاعنا من هذه الأرض؟

في المراحل الأولى من عمر الدولة، قبل وصول تكتل الليكود اليميني إلى السلطة في أواخر السبعينات من القرن الماضي، كان حسم المسألة الوجودية واضحاً عن طريق القوة، عملاً بـ«وصية» زئيف جابوتنسكي، أحد آباء الحركة الصهيونية، أن من السذاجة أن يتوقع اليهود أن يَقبل العرب برضاهم قيام دولة يهودية يرى الفلسطينيون أنها أرضهم.

وفي المرحل اللاحقة التي دخل فيها العنصر الديني إلى النزاع، وأصبحت التيارات المتشددة أكثر هيمنة على القرار السياسي في إسرائيل، اتسعت نظرية «الأرض الموعودة لليهود»، وهي النظرية التي صارت تبيح اغتصاب الأرض والتوسع في الاستيطان، ما دامت الأرض «حقاً إلهياً» لا يمكن أن ينازع اليهود أحد عليه. وفي ظل هذا التوسع، كان الوجود الفلسطيني، أو ما بقي منه، عنصر قلق دائم للإسرائيليين. إسحاق رابين كان يتمنى لو يفيق في يوم من الأيام ويرى قطاع غزة غارقاً في البحر (مع سكانه طبعاً). والسؤال الدائم الذي بقي يتكرر: لماذا لا تقوم الدول العربية بالمساحات الشاسعة التي لديها باستيعاب هؤلاء الفلسطينيين؟ ولذلك نشأت فكرة تهجير أبناء غزة إلى مصر، وفكرة «الوطن البديل» في الأردن. فعندما بدأت الهجرات اليهودية إلى أرض فلسطين في النصف الأول من القرن الماضي، معززةً بالمشروع الصهيوني، ثم بالمجازر التي ارتكبتها النازية بحق اليهود، اصطدمت بأن الأرض المخططة للوطن اليهودي، هي أرض مأهولة من شعب آخر.

ما العمل إذن؟ من هنا بدأت العقبة التي تواجه هذا المشروع، وهي العقبة المستمرة إلى اليوم، والتي يتم السعي إلى حلّها من وقت إلى آخر، إما بالتسويات التي ترفض إسرائيل تنفيذها والتي تقوم على تقاسم الأرض بين الشعبين، وإما بأعمال القتل المتكررة لعلها تنجح في الإجهاز على من بقوا على «الأرض الموعودة» أو في المخيمات.

بعد قرار تقسيم فلسطين في عام 1948 أرسلت الأمم المتحدة وسيطاً هو الكونت فولك برنادوت، لعله يتوصل بين اليهود والفلسطينيين إلى «تسوية عادلة لمستقبل الوضع في فلسطين». كان الرجل من أسرة سويدية أرستقراطية، وكان نسيباً لملك السويد، وكان متعاطفاً مع الحركة الصهيونية، خصوصاً في أعقاب ما ارتكبته النازية خلال «المحرقة» من مجازر، رأى المسيحيون الأوروبيون أنها وصمة عار بحقهم. من هنا لم تكن ميوله متعاطفة مع العرب أو الفلسطينيين.

مع ذلك واجه برنادوت عقبة أساسية في مهمة الوساطة تمثلت في «مأساة اللاجئين الفلسطينيين في مخيماتهم التعيسة التي شاهدتها بنفسي»، كما قال.

في تقرير قدمه إلى مجلس الأمن الدولي، طالب برنادوت «بعودة اللاجئين في أول فرصة وبشكل يجب ألا يكون متصلاً بأي عملية سلام أو حتى ببدء المفاوضات في سبيل ذلك». وأضاف: «إن أي تسوية للنزاع لا يمكن أن تكون عادلة ودائمة إذا لم يتم الاعتراف بحق اللاجئين العرب في العودة إلى البيوت التي طُردوا منها بسبب استراتيجية النزاع المسلح بين العرب واليهود في فلسطين».

كلام واضح لا يزال يتكرر بشكل حرفي تقريباً إلى اليوم. أما الكونت برنادوت، كما نعلم، فقد اغتاله رجلان من عصابة «شترن» التي كانت مصنفة تنظيماً إرهابياً حسب الانتداب البريطاني، بينما كان في طريق العودة إلى مقره في القدس في 17 سبتمبر (أيلول) 1948، بعد يوم واحد من تقديم تقريره إلى مجلس الأمن.