لا يمكن أن يتصوروا أنفسهم خارج زرقة مياه المحيط وبعيداً من صحبة الدلافين التي تساعدهم في توجيه الأسماك نحو الشاطئ حيث شباكهم مفتوحة في انتظار الصيد الوفير.
في بقعة نائية من الأراضي الموريتانية وعلى شاطئ المحيط الأطلسي بين العاصمة نواكشوط ومدينة نواذيبو الساحلية، تتناثر قرى قبائل الإيمراكن، بثقافتهم المتوغلة في التاريخ، المرتبطة بالبحر أساساً، حيث تفننوا في الصيد التقليدي حتى أصبح جوهر حياتهم ومرتكز اقتصادهم الذي ما زال يقاوم تحديات التقنيات الجديدة.
واليوم تقاوم عشرات القرى للبقاء في أماكنها على رغم تغير الظروف البيئية والثقافية لأبنائها، إذ أصبحت عيون الأحفاد مصوبة نحو المدينة، إلا أن مئات الرجال والنساء من الإيمراكن لا يفكرون في ترك جزرهم وحياتهم التي اعتادوا عليها، إذ لا يمكن أن يتصوروا أنفسهم خارج زرقة مياه المحيط وأصوات عصيهم التي يضربون بها الماء للفت انتباه الدلافين التي تساعدهم في توجيه الأسماك نحو الشاطئ حيث شباكهم مفتوحة في انتظار الصيد الوفير.
تضارب في روايات الأصول
تختلف السرديات الشائعة عند قبائل الإيمراكن حول أصولهم، وأول ظهور لذكرهم جاء في كتابات البرتغاليين الذين كانوا أسياد الأطلسي وأخضعوا المجموعات التي كانت تستقر على شواطئ المحيط الأطلسي لسيطرتهم.
وحسب محمد الأمين عبدالله المهتم بتاريخ قبائل الإيمراكن، فإن أصول هذه القبائل تعود إلى "كداله الصنهاجية" وهم مجموعة من الصيادين العرب، لا تعرف لهم غير اللهجة الحسانية المشتقة في أغلبها من العربية.
ويعبر الأمين وهو صاحب وثائقي "الطريق إلى إيمراكن" الذي سبر أغوار هذه المجموعة، عن اعتقاده بأن تلك القبائل تنحدر من أحفاد بوبكر بن عامر الكدالي الذين انطلقت منهم دولة المرابطين في جزيرة تيدره بالقرب من العاصمة نواكشوط، لنشر الإسلام في أعماق الصحراء وغرب أفريقيا، ويوجد قبر ابن عامر في وسط موريتانيا.
ويرى الباحث عبيد أميجن أن قبائل الإيمراكن هي "مجموعات ناطقة بالحسانية اختارت العيش بمحاذاة المحيط وهذا الشيء غير معهود في مجتمعها الذي لا يرتبط بود عميق مع المحيطات والبحار".
ويضيف أميجن "يحترف الإيمراكن الصيد التقليدي، وترتبط حياتهم كثيراً بثروات البحر، فهم غالباً يمتلكون الأدوات الفريدة لممارسة حرفتهم هذه، إلا أن تغير الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبلد، والنزوح الواسع إلى مناطقهم يدفع كثيراً منهم لمغادرة المكان".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وما زال المئات من هذه القبائل يمارس حياته التي اعتادها منذ قرون في جزيرة لمسيد (70 كيلو متراً) من نواكشوط وهي قرية متوسطة أغلب سكانها من الصيادين التقليديين، كما تحتفظ قرية تويليت بجودة الأسماك المجففة، وهي محطة ثابتة لعشاق هذا الصنف من المأكولات البحرية في موريتانيا.
وتعد قرية نوامقار (نحو 200 كيلو متر) شمال نواكشوط عاصمة قبائل الإيمراكن، حيث يعيش أكبر تجمع ويعتمد السكان فيها بشكل كلي على منتجات الأسماك وما يجود به المحيط من خيرات، ومنها تبدأ الشواطئ التي تحظر فيها السلطات الموريتانية الصيد الصناعي لقربها من محمية حوض آركين، التي تعد ملاذاً لأنواع نادرة من الطيور المهاجرة في رحلة هروب جماعي من صقيع شتاء أوروبا، حيث تنعم بالدفء في مناخ معتدل.
قرون من الصيد
منح المحيط لقبائل الإيمراكن خصائص ثقافية شديدة الخصوصية ومتفردة بشكل واضح عن بقية المشترك الثقافي الذي يجمع الموريتانيين، حيث أغلب سكان هذه الأرض لم يشيدوا قرى أو مدناً في التاريخ الوسيط والحديث قبل إنشاء العاصمة في نهاية خمسينيات القرن الماضي على ضفاف الأطلسي.
واجه الإيمراكن البحر ونسجوا علاقة ود على عكس بقية قبائل الموريتانيين الذين ولوا ظهورهم للأطلسي، حيث ظل اعتمادهم في القديم على التنمية الحيوانية وهو ما يجعل مجاورة البحر ضرباً من الجنون.
ويؤصل الباحث عبيد هذه النقطة بقوله "تحتفظ قبائل الإيمراكن بذاكرة قوية ونشطة في ما يتعلق بمخيالها الجمعي وتراثها الإنساني الذي يضم مسيرتها على الرمال كما على المحيط، هي قبائل تضع قدماً في البحر وأخرى على اليابسة، وطبعاً لا تزال بعض الجزر تحتفظ بمدافن قديمة نسبياً لمجتمعات الإيمراكن على رغم ترحيلهم عنها، وفي الوقت نفسه تمتلئ الذاكرة بكل الرحلات الجميلة إلى عمق المحيط وبالخيبات كذلك".
ويرى عبيد أن "مجتمعات الإيمراكن على رغم أهميتها فهي لا تزال بعزلة لا يفكها منها سوى البحر وأحشائه".
ويزخر تاريخ الإيمراكن بطقوس غريبة في الصيد، حيث يبين محمد الأمين طريقة صيد تقليدية نادرة يتحالفون فيها مع الدلافين التي تقوم بدور مطاردة السمك من مناطق بعيدة من الشاطئ وتقوم بتضييق الخناق عليه حتى يصل رجال الإيمراكن الذين ينتظرونه عند الشاطئ.
تقول خدي محمد وهي حفيدة صياد إيمراكن تقيم في العاصمة، إنها عاشت في طفولتها محطات مهمة من ازدهار أغان يطلقها الإيمراكن لتهيئة أجواء ملائمة لخروج السمك الكبير والنادر من أعماق المحيط".
إرث يبتلعه البحر
وتخشى خدي محمد أن تسهم هجرة الأسر التي كانت تمتهن الصيد في قرى الإيمراكن المنتشرة على طول 450 كيلو متراً من الشاطئ الموريتاني في اندثار ثقافتهم، وتقول "جيلي هاجر إلى المدن الكبيرة كنواكشوط ونواذيبو بحثاً عن حياة أفضل ومستقبل لأبنائنا. لم تعد حياة الصيد التقليدية على شاطئ الأطلسي تلبي طموح الأجيال الصاعدة من الإيمراكن".
وتقوم السلطات الموريتانية بتمويل مشاريع تنموية لتثبيت السكان الأصليين لهذه القرى في مناطقهم التي عهدوها، كان آخر تلك المشاريع فتح مصنع صغير لتركيب القوارب الشراعية وتعليم أبناء الإيمراكن المهن المرتبطة بنشاطهم الأصلي.
وعصفت التغيرات السياسية والاجتماعية في العقود الثلاثة الأخيرة بالتركيبة الديموغرافية لهذه القرى، حيث أصبحت تستقطب صيادين من خارج الإطار الاجتماعي ما أدى إلى انحسار ثقافة الإيمراكن التي قاومت لقرون كثيرة في هذا المجال الصحراوي القاسي.