توقفت شاحنة أمام مصنع الجبن في ريف هامبشير المخضوضر في جنوب إنجلترا، وراح العمال يحمّلون فيها علب "تنوورث"، أو ما يسمّى أيضاً الـ"كامامبير الإنكليزية"، لشحنها إلى بعض أفضل متاجر الجبن والمطاعم في المملكة المتحدة.
وتماماً كستايسي هيدجز التي أسست شركة "هامبشير تشيز كومباني" وشرعت في تصنيع "تنوورث"، دخل العشرات من رواد الأعمال مجال إنتاج الجبن في إنجلترا واسكتلندا وويلز. وباتت مجموعة واسعة من أنواع الجبن اللذيذة البريطانية المنشأ متوافرة إلى جانب النوعين التقليديين، أي ستيلتون وتشيدر.
وغالباً ما تكون فرنسا المعروفة بأنها "أرض الألف جبنة"، مصدر إلهام لهذا القطاع الآخذ في الازدهار في المملكة.
وتقول ستايسي هيدجز التي كانت طوال حياتها من عشاق الجبن "لم أكن لأتوقع إطلاقاً أن تحقق مؤسستي مثل هذا النجاح".
أسست هذه الطاهية السابقة معملها الصغير عام 2005، فراح ينمو شيئاً فشيئاً، حتى بات يعمل فيه اليوم تسعة موظفين وينتج نحو سبعة آلاف قالب جبن في الأسبوع، وصولاً إلى 12 ألفاً خلال فترة عيد الميلاد.
ويصف شيف فرنسي مقيم في المملكة المتحدة جبنة "تنوورث" على موقع "هامبشير تشيز كومباني" الإلكتروني بأنها "أفضل كامامبير في العالم". ومع أن العبارة قد تنطوي على شيء من التحدي والاستفزاز في نظر الفرنسيين، لا شك في أن هذه الجبنة فرضت نفسها بالفعل في قوائم الطعام وفي برادات المحال.
لا أثر لأي آلة في هذا المعمل، إذ أن كل العمل ينفذ يدوياً، من تَسَلّم الحليب من مزرعة مجاورة، إلى توظيف قالب الجبنة في صناديق خشبية مستديرة مستوردة من فرنسا. وتلاحظ ستايسي هيدجز (61 عاماً) أن "الجميع يعرفون علبة الكامامبير".
وبالإضافة إلى "تنوورث"، تنتج "هامبشير تشيز كومباني" صنفاً آخر هو "وينسلايد"، وهي جبنة ذائبة أكثرـ تشبه الجبنة الفرنسية من نوع فاشران (vacherin).
وتستعين ستايسي هيدجز بمهندسين فرنسيين يقدمون لها النصائح في شأن عملية التصنيع. وتقول: "في هذا البلد، لدينا ستيلتون وتشيدر، لكننا لا نملك المعرفة بالجبن الطري".
- دعم المنتجين المحليين -
شكّل نجاح مشروع ستايسي هيدجز مصدر إلهام لبريطانيين آخرين.
وترى برونوين بيرسيفال، وهي المديرة الفنية في شركة "نيلز يارد ديري" لبيع الأجبان التي تملك أربعة متاجر في لندن أن "القطاع يشهد مرحلة مثيرة جداً". وتلاحظ أنّ "ثمة أشخاصاً جدداً يدخلونه من دون توقف، يتمتعون بروح المبادرة الحقيقية والرغبة في صنع جبن جيد".
لا تبيع "نيلز يارد ديري" سوى الأجبان البريطانية تقريباً. وتقول برونوين بيرسيفال "لدينا في الراهن جبنة موتزاريلا إيطالية الصنع، ولكن إذا تمكن أحد المنتجين من صنع مثلها هنا بالجودة نفسها، فقد نقرر حينئذٍ تغيير المنتج" واعتمادها بدلاً منه، وهو ما سبق أن حصل مع جبنتَي بري وكامامبير.
ويتوزع أكثر من 60 نوعاً من الجبن البريطاني في برادات "نيلز يارد ديري".
أما عن سبب هذا الإقبال، فتلاحظ برونوين بيرسيفال أن "المملكة المتحدة كانت تتميز دائماً بصناعة ألبان قوية (...) لكنّ انخفاض أسعار الحليب (بعد تحرير السوق في تسعينات القرن الفائت) دفع البعض إلى صناعة الجبن للإفادة أكثر من الحليب الذي ينتجونه". وأتاح ذلك إنقاذ مزارع عائلية.
وواكب المستهلكون هذه الصناعة المحلية وأقبلوا عليها، حتى قبل البريكست الذي سلط الضوء على اعتماد المملكة المتحدة على الواردات الغذائية الأوروبية.
تقول تريسي كولي من "أكاديمية الجبن" (Academy of Cheese) التي توفر دروس تذوق وتنظم أنشطة من بينها "ويك إند الجبن البريطاني"، إن "الناس يرغبون في معرفة مصدر الطعام الذي يأكلونه ودعم المنتجين المحليين".
وساهمت الجائحة في دعم هذا القطاع، إذ "أصبح الجبن متعة" للأشخاص المحجورين في منازلهم.
لكنّ انتشار هذه الأجبان لم يصبح بعد شاملاً. وتقول تريسي كولي إن "لدى كل شخص في ثلاجته جبنة تشيدر"، لكن أنواع الجبن الأخرى لا تزال تقتصر على أوقات ومناسبات معينة.
وتوضح تريسي كولي أن معظم البريطانيين يأكلون الأجبان التي تُعتبر فاخرة في عيد الميلاد وفي المناسبات الخاصة بشكل أساسي. فأسعارها مرتفعة بالفعل، وغالباً ما يزيد ثمن قالب الجبن الواحد عن عشرة دولارات.
وتضيف: "في الأكاديمية، نحاول تغيير العقليات ونقول للناس: كما هي الحال في فرنسا، كلوا الجبن كل يوم".
ومن اللافت مثلاً أن مطعماً في كامدن بشمال لندن يحمل اسم "تشيز بار" تقتصر قائمته على الجبن البريطاني، ممتلئ باستمرار.
وتحقق "الأجبان البريطانية" مبيعات جيدة في الخارج، حتى إن فرنسا نفسها تُعدّ من أفضل وجهات التصدير بالنسبة إلى "نيلز يارد ديلي".
وتبيع ستايسي هيدجز منتجات "تنوورث" في هونغ كونغ والولايات المتحدة وبلجيكا وهولندا وسواها، لكن ليس في فرنسا،فتتساءل: "هل يُعقَل أن يشتري الفرنسيون الكامامبير البريطاني؟".