في مواجهة الذكاء الاصطناعي... تحديات كبرى أمام العرب

منذ 1 سنة 174

كباحث في شؤون الاستراتيجية والمستقبليات في مجال الشرق الأوسط، ومن باب التعلم والاستطلاع، تابعت مؤخراً مؤتمراً عن مستقبل الذكاء الاصطناعي والسلاسل الكُتلية – Block Chain وتبعاتها على المجتمعات. بالطبع لم تسعفني خلفيتي الطفيفة السابقة، في الرياضيات والحاسوب من الدهشة الجامحة والفضول لمعرفة المزيد.

تستعد القوى المسيطرة على فضاء الاتصالات والذكاء الاصطناعي وعتاد المعلومات، لإدخال الحضارة في حقبة عاصفة من المعايشة الإنسانية - الافتراضية. ويعيد الانعطاف الجاري صياغة علاقات البشر بالتقنية والعالم الافتراضي، وقبل كل شيء بناء علاقتهم بمجتمعاتهم، وهيكلة القيم والعلاقات وترتيب الأولويات الاقتصادية السياسية والاستراتيجية.

إنها حقيقة راهنة وليست حقيقة افتراضية. ليبدو ما نشهده في عالمنا من اضطراب وضعضعة، مجرد إرهاصات أولية لاختراق الذكاء الاصطناعي مجمل مساحات صنع القرار والرأي والحرب والبحوث وحياة البشر.

بل، سينجم عن ذلك، حسب التوقعات العلمية، إعادة صياغة علاقات الإنتاج والعمل والبنى المجتمعية والأسرة والأجناس والحياة الإنسانية عامة. وسيمتد جبروت هذا الانعطاف، بشكل لا يمكن تفاديه، في جغرافيا العالم بأسره.

ولكن كيف؟

الذكاء الاصطناعي ليس حصاد حقن كم هائل من المعلومات في معالج حاسوبي، يعجنها، ويستخرج منها إجابات أو برامج جديدة. إنه مختلف نوعياً عن الحاسوب! إذ يستند عمل الذكاء الاصطناعي إلى ما يسمى «الشبكات العصبونية» التي تسمح للحاسوب أن يتعلم من أخطائه ذاتها، «ليفكر فيها» ويصححها ذاتياً، ويعيد برمجة نفسه، بعد أن يستكشف أفضل الطرق لحل المهمة المطروحة.

يعكف الذكاء الاصطناعي على تقطيع كل مهمة، قِطعاً جزئية صغيرة جداً، ويكرر تطبيق كل منها، قطعة، قطعة؛ حتى يكتشف أفضل طرق إنجازها. وهكذا، إلى أن يكتشف أفضل المسارات العامة لتنفيذ المليارات من العمليات المعقدة، وليتعلم من مهمة لمهمة، ومن تراكم الخطأ والصواب، رسم المسار الإبداعي العام لإنجاز وتطوير قدراته الافتراضية، الغاية في التعقيد.

مثل البشر، يتعلم الذكاء الاصطناعي، وتتطور تجربته المعرفية لتتفوق عليهم سرعة وشمولاً، بحيث يستحيل أن يفهم الباحثون كيف توصل الذكاء الاصطناعي إلى إنتاج برامج «مخططات التفكير» والحلول المدهشة لمشكلات عجز البشر عنها لقرون؟ وترجع قوته الخارقة، لميزته الجوهرية الكامنة في إنجاز مليارات العمليات في الثانية، واصطفاء أفضل الحلول في دقائق، ما كان يمكن أن يستغرق آلاف البشر لآلاف السنين، بل يبتدع عبر مسارات تفكير، لا تخطر على بالهم. لكن الأهم ولعله الأخطر أنه صار يعيد برمجة ذاته حسب خبراته!

وعلى هامش ما قيل، ثمة نقاش فلسفي وحاسوبي ومجتمعي عميق يؤكد بشكل حاسم تفوق البشر الدائم في إنتاج المفاهيم. فهذا أس إنسانيتهم! وتلك فكرة يمكن أن نعالجها لاحقاً.

يتزاحم مئات الآلاف من الباحثين والمطورين ورجال الأعمال لإطلاق هذا الانعطاف الهائل. ولا يتعلق الأمر بمشاريع إيلون ماسك وزوكربيرغ، فليست هذه سوى قمة جبل الجليد. بل تتزاوج الحقيقة والافتراض لتنتج عالماً حقيقياً وحيداً وجديداً.

قد يبدو لنا الأمر أشبه بلعبة الفيديو، لكن لعبة الذكاء الاصطناعي ستستولي على مجتمعاتنا بسرعة خاطفة. وسيغير هذا الدمج نوعاً وعمقاً، كيفية عمل المجتمعات وأطرها وتناقضاتها، وكيفية عمل اقتصادات العالم، والأنظمة السياسية، وعلاقات العمل والإنتاج. وإذ تندمج غريزة اللعب، بغريزة العمل، يبدع الذكاء الاصطناعي أنماطاً جديدة من الثقافة والفن والإنتاج، بفضل المجسدات الشخصية التي يدمجها في صلب حياتنا. ويتدخل في جوف عقل كل منا، وأنماط تفكيرنا، ويغير مفاهيم الثروة والانتماء وتداول السلع المادية والافتراضية.

في عالمنا العربي، تظهر الإحصاءات المشاركة المتزايدة للجيل الجديد في العمل على الذكاء الاصطناعي، وبخاصة المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات. وبحسب المنتدى الاقتصادي العالمي عام 2021 يتبين أن هذه الدول تشكل واحدة من أسرع مناطق نمو الذكاء الاصطناعي. حيث زاد عدد شركات الذكاء الاصطناعي الناشئة بنسبة 300 في المائة في خمس سنوات. وتؤكد مؤسسة «ماكينزي» 2022، أنه بحلول 2030 يمكن أن يتمكن العالم العربي من خلق 1.8 مليون وظيفة، لتنتج ما يقدر بتريليون دولار. ووجدت مؤسسة «دبي للمستقبل» 2023، أن 80 في المائة من الشباب مهتمون بالعمل في الذكاء الاصطناعي. وإذ يندفع الجيل الجديد نحو هذا العالم، فإنه يقوض دون تردد عادات وأنماط تفكير وعلاقات غير قابلة للارتداد، وبسرعة أسطورية.

وفي وقت تنهار في بلادنا قطاعات تقليدية بأسرها، تزحف جملة معقدة من التهديدات البيئية والتقنية والحضارية. وأمام تهديد البطالة وتراجع دور الشباب وتغير المناخ، يصبح ميدان الذكاء الاصطناعي، خلاصاً وملاذاً جديداً للمبادرة الإبداعية للشباب وتحسين التعليم، والرعاية الصحية، ووسائل الاتصال، والمواصلات. هذا في حين تتخلف دول عربية عن مطالب هذه التقنيات.

أطلقت مصر مبادرات مثل تحدي مصر الكبير، وأكاديمية الذكاء الاصطناعي. وأنشأت دولة الإمارات المدينة الذكية للشيخ محمد بن راشد التي يراد لها أن تصبح أذكى مدينة في العالم. وتطلق حكومة المملكة العربية السعودية، حزماً معقدة مترابطة من المشاريع في سياق الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي والتي تطمح إلى جعل المملكة رائدة عالمياً في الذكاء الاصطناعي.

في حين يوفر هذا الجني فرصاً منقطعة النظير للتقدم والنمو، فإنه يجلب تحديات ومخاطر تتطلب إدارتها بعناية.

سوف تنزاح الوظائف نحو الجيل الجديد، وتتصاعد فجوة المهارات ضمن المجتمع، ناهيك عن إزاحة الوظائف التقليدية في قطاعات التصنيع وخدمة العملاء وإدارة البيانات. وبدوره، سيؤدي ذلك، إلى الحاجة الماسة إلى إعادة تدريب وصقل مهارات القوى العاملة.

كما سيوفر هذا الذكاء للبلدان العربية إمكانية تجاوز تحدي التنويع الاقتصادي، ويؤمّن قاعدة إنتاجية للتنويع ويحفز الابتكار وريادة الأعمال عبر تعزيز نمو التكنولوجيا والمعرفة... ويرى الخبراء أنه يفترض أن تقابل الحكومات هذه التحولات مالياً وإرشادياً وتشريعياً. كما يفترض أن تُسد الفجوة الرقمية، بخاصة في الريف بشكل سريع. لكن التداعيات في مجتمعاتنا ستكون بالقدر ذاته من الدرامية. سواء منها الأخلاقي أو أخطار التحيز والتعصب السياسي.

لن تنحصر تداعيات ذلك داخل المجتمعات ذاتها، بل سيعزز موقع الدول المتقدمة في شرقنا الأوسطي لتصبح عقدة حيوية في سلاسل الإبداع والإنتاج في العالم. وستعزز مكانها الدولة. لكن الدول التي ستتخلف ستهمش، وستلد تحالفات إقليمية ودولية جديدة في ذلك السباق الكوني نحو دمج الإنسان في إقليمنا ضمن عالم الافتراض.