في مسار يقظة سورية ولو متأخرة!

منذ 2 أشهر 40

ثمة مقولة دارجة في الحياة العربية تقول: «أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي»، والأصح منها قول: أن تأتي متأخراً/ متأخرة خير من أن تتأخر أكثر. أساس التصحيح في المقولة، أن الأمر لا يقتصر على الناس وعلى الرجال أساساً، كما يوحي القول، بل هو يشمل المذكر والمؤنث، كما يشمل الظواهر الطبيعية والقضايا الاجتماعية، سواء كانت تتصل بالأولى كما في العواصف والأمطار، وتتحكم الطبيعة في نزول وانقطاع الأخيرة وفق عوامل محددة، أو في مبادرة الناس لمعالجة أمراض ومشاكل تضرب مجتمعاتهم، وتهدد تطورها كما في ظواهر بينها التطرف والاستبداد والكراهية، وكلها استحقت اهتماماً وجهداً بشرياً على مر العصور من أجل تحسين حياة الإنسان وتسهيلها، سواء فيما فعله في العلاقة مع الطبيعة من حوله، أو في العلاقات الإنسانية في جوانبها المختلفة وفي مستوياتها المتعددة.

الوقوف عند المقولة له ارتباط وثيق بما تزايد لدى السوريين من إحساس بالغلبة والظلم اللاحق بهم منذ عام 2011، عندما طالبوا بحقوقهم وبإحداث تغييرات سياسية واقتصادية واجتماعية في حياتهم، تضعهم في مسار التطور العام الذي يسير إليه العالم، لكن مطالبهم رُفضت، وزاد على الرفض أن جاءهم رد صاعق ومدمر في حرب قُتل فيها وجُرح، واعتُقل واختفى ملايين منهم، وتم تشريد أكثر من نصف السكان بين نازح ولاجئ، وجرى تدمير قدرات وملكيات أغلب السوريين، وشمل الدمار البنى التحتية العامة الإنتاجية والخدمية، بما فيها شبكات المياه والكهرباء والطرق والمدارس والمشافي. وحيث قصرت أجهزة النظام في ذلك، قام حلفاؤها وإيران والتابعون للأخيرة من الميليشيات، وجماعات متطرفة وإجرامية، بدورهم في حرب القتل والتهجير والتدمير.

ولم تكن خسائر السوريين البشرية والمادية السبب الوحيد لليأس والإحباط المتزايد، بل انضم إليه سببان آخران: أولهما خروج السوريين من دائرة التأثير في قضيتهم، وانكفاء إقليمي ودولي عن الذهاب إلى حل حتى في حدود التوافقات الدولية المنصوص عليها في بيان جنيف والقرار الدولي «2254»، وترك السوريين تحت سيطرة وعسف سلطات الأمر الواقع المرتبطة بقوى احتلال إقليمية ودولية، وصولاً إلى كارثة راهنة بين تعبيراتها فقر وفساد وتطرف وانهيار أمني. والسبب الثاني في دواعي اليأس والإحباط عند السوريين، جسّده انقلاب دولي حيال اللاجئين والمقيمين السوريين، وخاصة في بلدان تضم أعداداً كبيرة من السوريين، في مقدمتها تركيا ولبنان ودول غرب أوروبا، بما فيها ألمانيا والسويد، حيث أكبر وجود للسوريين في بلدان الشتات، وقد تصاعدت معاناة المقيمين في لبنان وتركيا، وخاصة لجهة صعوبات الإقامة والعمل وضعف الخدمات، وتدهور الأمن وشيوع العنصرية، وتدهورت أوضاع اللاجئين في أوروبا، وكان بين مظاهر التدهور تصاعد نزعات عنصرية، وتشديد من الحكومات عبّر عن نفسه في إجراء تعديلات في قوانين الإقامة والهجرة ومنح الجنسية، وارتفاع وتيرة الحديث عن الترحيل سواء لأسباب «جنائية» أو بدعوى «المناطق الآمنة» في سوريا.

لقد بدا من «الطبيعي» حيال الكم الكبير من تدهور حال السوريين، تنامي المخاوف والقلق بصدد الراهن والمستقبل، لا سيما في ظل كثرة الحديث عن عودة السوريين إلى سوريا، من دون أن يتبين ما يشير إلى أن العودة ستكون آمنة وطوعية وفق محتوى القانون الدولي، وأنها تتضمن عودتهم إلى أماكن سكناهم وإلى أملاكهم وبيوتهم، دون أن يحدث أي تبدل في سياسة النظام وفي بنية أجهزته، بل ودون وجود أي ضمانات دولية تكفل عدم تعرض العائدين للخطر، وخاصة أن انتهاكات مثبتة تمت لجهة اعتقال بعض العائدين.

غذّى تدهور الأحوال نزعات سلبية لدى السوريين، وبسببها تصاعدت نزعات كراهية وتشدد ومسايرة التطرف في العلاقات مع الخارج، وفي العلاقات بين السوريين أنفسهم، ونكث بعضهم إلى إحياء النزعات ما قبل الوطنية ومنها الطائفية والجهوية، واندفع أغلبهم في مواجهة جماعاتهم والقيادات السياسية والمدنية والعسكرية، وفقد كثير منهم الثقة بالعالم دولاً وشعوباً ومنظمات أممية إنسانية وحقوقية، وصار نقاش السوريين، سواء في المستوى الفردي أو مستوى الجماعات في الإعلام وعلى وسائل التواصل، أبعد عن الموضوعية، وبعيداً عن الحقائق المدعمة، ومملوءاً بالاتهامات والتهجم الشخصي.

وكما هو حال السوريين مع الظواهر السلبية التي أفرزتها أحداث وتطورات الحرب وتداعياتها، فقد تكررت محاولات الإصلاح لتصويب مضمون برامج ومسارات عمل الجماعات السياسية والمدنية والعسكرية، بالتوازي مع عمليات الإصلاح السلوكي الثقافي والاجتماعي، من أجل إعادة إنهاض وعي السوريين بمشكلاتهم وتقوية قدراتهم على تجاوزها، وكلاهما بين شروط أساسية يحتاجها خلاص السوريين مما صاروا إليه، وذهابهم إلى سلام وحل سياسي وإعادة بناء بلدهم.

وإذا كانت محاولات الإصلاح السوري ما زالت محدودة النتائج، فإن التوجه نحو الإصلاح السلوكي يتقدم أكثر في ضوء ظاهرتين: أولاهما نقاش عام تزايد مؤخراً في الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، والثانية وثيقة فكرية سلوكية أصدرتها مجموعة من المثقفين والناشطين، ووقّعها مئات من الفاعلين في الانتشار السوري، شرحت واقع التحولات السورية، ثم حددت منطلقات الخلاص منها، للمضي بمواجهة الكراهية والسير نحو التشارك والتضامن، وتصحيح محتوى علاقات السوريين فيما بينهم من جهة، وفي علاقاتهم مع الآخرين، وصولاً إلى إشاعة روح إيجابية قائمة على الاحترام والمحبة بدل تسميم الفضاء العام، وتشجيع الالتزام بأدبيات الحوار، وتعزيز خط التشارك والتضامن فيما بينهم في ظل لحظة سياسية خطرة وقاهرة. خلاصة القول، أنها خطوات في مسار صحوة حتى لو أنها بدت متأخرة.