في تقليب مواقف اللبنانيّين من الحرب

منذ 1 سنة 140

هناك أصوات لبنانيّة متباينة حيال «التدخّل» الواجب في غزّة وحيال النكبة التي تُنزلها بها الوحشيّة الإسرائيليّة. ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعيّ على الأقلّ، تظهر مَرْوحة من الآراء يعكس بعضها خلفيّات أصحابها الطائفيّة وتجاربهم السياسيّة أو الفكريّة. فهناك مثلاً قطاع يرى أنّ ما يجري خارج حدودنا الوطنيّة لا يعنينا بالمطلق، وقطاع يعاكسه داعياً إلى الانخراط الكامل والفوريّ في الحرب الدائرة هناك، وثمّة قطاع يتجاوز تأييد غزّة إلى تأييد «حماس» لكنّه، مع هذا، لا يريد للبنان التورّط في الحرب، وبالطبع هناك فئة عريضة تريد ما «يريده السيّد» قاصدةً بذلك أمين «حزب الله» العامّ حسن نصر الله الذي يعرف وحده ما ينبغي وما لا ينبغي، وليس علينا سوى أن ننفّذ ما يعرفه.

أمّا القائلون «لا يعنينا الأمر بالمطلق» فواضحٌ أنّ تجارب النزاع الأهليّ منذ السبعينات، ومخاوف التورّط مرّة أخرى في حرب مفتوحة هي ما يدفعهم إلى ذاك الموقف. وهذا علماً بأنّ فجاجتهم في التعبير تُظهرهم ضعيفي الحساسيّة حيال الألم الإنسانيّ، فضلاً عن الخفّة في تعبير «لا يعنينا» بينما يمكن الجزم بأنّ نتائج تلك الحرب سوف تعكس نفسها على لبنان، كما على سائر المنطقة.

وبدورهم فالذين يدافعون عن الانخراط الفوريّ والمباشر لا يستوقفهم أيّ شيء يتعدّى هذا الانخراط في القتال: لا يستوقفهم تاريخ البلد ونزاعاته، ولا حاضر العلاقات بين جماعاته ومستقبلها، ولا ضعفه العسكريّ والاقتصاديّ، ولا فكرة الاحتكام إلى دولة منتخبة وسيّدة يُفترض أن ينبثق منها القرار الخطير... وبغضّ النظر عمّا إذا كان هؤلاء لبنانيّين أو مقيمين في لبنان، فإنّ لبنان لا يمثّل في حساباتهم أكثر من كونه ممرّاً إلى مقاتلة إسرائيل.

لكنّ الحجّة ذات التماسك الأضعف فهي التي يريد أصحابها ما تريده «حماس» من إزالة للدولة العبريّة وتحرير لفلسطين كلّها، لكنّهم يريدون أيضاً أن لا ينخرط لبنان في الحرب. وهذا علماً بأنّ تحقيق ما تعلنه «حماس» يستدعي دخول المنطقة كلّها، ولبنان في عدادها طبعاً، في الحرب. هذا إذا كان القائلون جدّيّين في ما يقولونه.

ما يُكسب تقليب هذه الآراء ومراجعتها مزيداً من الأهميّة كونُ «التدحرج» إلى الحرب احتمالاً جدّيّاً، أكان ذلك بقرار واعٍ أم بنتيجة العمليّات العسكريّة «المضبوطة» نفسها حين تُفلت من ضبطها، خصوصاً وأنّ الدولة معطّلة فيما القرار الأمميّ 1701 يغدو لزوم ما لا يلزم. والحال أنّ أكثريّة كبرى من اللبنانيّين ترى (وإن كانت الأقوال المعلنة لا تتقيّد دائماً بذلك) أنّها شديدة التعاطف مع المعاناة الإنسانيّة لسكّان غزّة، وشديدة الاقتناع بالضرورة الماسّة لقيام دولة فلسطينيّة، لكنّها أيضاً تعادي بشدّة أكبر أيّ انخراط في الحرب.

والرأي هذا، وإن لم يُقرّ جميعُ أصحابه بذلك، امتداد لتقليد لبنانيّ تمكّن من تجنيب البلد حربي 1967 و1973، كما تجنّب إيقاعه في حكم عسكريّ وأمنيّ، فيما وفّر للقضيّة الفلسطينيّة منبراً مهمّاً في الدفاع عنها وتقريبها من العالم الخارجيّ. والحقّ أنّ وجاهة هذا الرأي تُضاعفها المآسي التي تعاقبت على لبنان في العقدين الأخيرين فأمعنت في إفقاره كما وسّعت الفجوات التي تفصل بين جماعاته. وهذا ناهيك عن أنّ الآثار التدميريّة التي ستنجرّ عن أيّ انخراط في الحرب سوف تتفوّق، وبلا قياس، على الأذى الذي يُنزله بإسرائيل انخراط «حزب الله» في الحرب.

بيد أنّ مراجعة المواقف وتباينها مهمّة لسبب آخر يتّصل بمستقبل اللبنانيّين وبقدرتهم على استئناف عيشهم المشترك الذي تتضاءل عناصر الاشتراك فيه. وليس بلا دلالة أنّه في الجبهة التي يُفترض أنّها في صفّ المقاومة والقتال كائناً ما كان الثمن، يُظهر التواصل الاجتماعيّ حجم التشقّق المذهبيّ داخل الوحدة المزعومة. وهذا ما يتّخذ في أحوال كثيرة شكل النبش في المواضي الخلافيّة، القريب منها كالثورة والحرب السوريّتين أم البعيد كتأويل أحداث التاريخ الإسلاميّ المبكر. ولئن شكّل موقف «حزب الله» الموصوف بالغموض من الانخراط في الحرب مدخل الاشتباكات على جبهة التواصل، يُخشى تفاقُم الميل الزجريّ وفرض الرأي الواحد والتعبير الواحد على تعدّد اللبنانيّين. فتواصل الحرب الإسرائيليّة ومدى توحّشها سبب وجيه لمثل هذا الخوف المبرّر، وكذلك الحال مع انكشاف أنّ أجواء الصراع مع إسرائيل لا تكفي لتوحيد ما لا يتّحد، وغالباً ما تعمل في اتّجاه معزّز للانقسام والتوتّر. والراهن أنّ هذا الانكشاف، الذي نراه للمرّة الألف بأمّ العين، يطيح بنظريّة عزيزة على قلوب دعاة الصراع المفتوح الذي «يوحّدنا». وكلّما تبيّن أنّ «الوحدة» وهم في الواقع، زاد الخوف من فرض «الوحدة» على المجتمع، إن لم يكن على التفكير فعلى التعبير. وهذا، بدوره، عريق في تجاربنا التي غالباً ما تتحايل على المشكلات الفعليّة بإطلاق العنان للتخوين والتشهير.