بدقة وتركيز كبيرين وباستخدام أدوات صغيرة ودقيقة، تعكف الشابة الفلسطينية منار شولي في منزلها بمدينة نابلس على تشكيل ونحت القطع التي تكوّن المجسم المصغر الذي تعمل عليه، فكل قطعة تقدم لها عناية خاصة من دون كلل أو ملل من ناحية التفاصيل والألوان ووقت الجفاف والحجم وغيرها، وهذا ما يسمى بفن المصغرات أو المنمنمات.
وبالنسبة إلى منار فإن هذا الفن يكمن في طريقة تحليل الأشياء بالنظر، فبعضهم يرى التفاصيل الخارجية للأشياء وبعضهم يتوق إلى معرفة التفاصيل الدقيقة من أجل إعادة تجسيدها، لتصبح قطعاً صغيرة بحجم اليد تشبه تماماً الأصلية، إذ لو اقتربت الكاميرا منها لكان من الصعب التمييز ما إذا كانت يدوية الصنع أم حقيقية. ولتحقيق هذا التطابق فإنها تتمنى أن يكون لديها مشغل خاص تتفرغ فيه تماماً وتجلس من الصباح حتى المساء لتعمل على هذه القطع.
علاقة منار بالفن نشأت من حبها للرسم الواقعي واهتمامها بالتفاصيل الصغيرة وتحليلها من أجل فهم كيفية رسمها أو تجسيدها، وبعد إنجاب طفلها الأول بدأت منار رحلتها مع فن المصغرات بسبب انخفاض قدرتها على الرسم، لأنها ترى أن الرسم حساس جداً ولا يحتمل أن يقترب الأطفال منه، في حين أن صناعة المصغرات قد تستطيع الاستمرار فيها حتى لو كان هناك طفل إلى جانبها، على رغم دقة هذا الفن وحساسية المواد المستخدمة وإمكان تلف القطعة بأكملها عند أي حركة خاطئة.
يصعب التمييز ما إذا كانت المصغرات يدوية الصنع أم حقيقية لدى تصويرها عن قرب (اندبندنت عربية)
وكان "البوليمر كلاي" أول المواد التي استخدمتها في تشكيل مصغرات الطعام، مثل المشاوي والهامبرغر وغيرها من الأطعمة، كبداية تجريبية لهذا الفن، وكل قطعة من هذه أخذت وقتاً لتصبح جاهزة للعرض، وبعد أن نالت موهبتها استحسان من حولها استمرت في تطوير فن المصغرات اليدوي الذي بات يلحظ انتشاراً مؤخراً في فلسطين.
من الأطعمة إلى الغرف المنزلية
وبعد الأطعمة انتقلت منار إلى عمل المنازل المصغرة، إذ تجسد جزءاً من منزل أو منزلاً كاملاً بتفاصيله كافة من أثاث وألوان ولكن بحجم أصغر، مثل الكنب ورفوف الكتب والطاولات ومستلزمات المطبخ والنباتات، ولإتقان ذلك عملت منار على تطوير هذه الهواية فانتقلت من عمل الأشكال من مادة "البوليمر كلاي" إلى إدخال عناصر أخرى مثل الخشب والقماش وغيرها من أجل محاكاة المجسمات الحقيقية، وبالنسبة إلى منار فهذه الهواية كانت سبباً في تعلم كثير من المهارات الأخرى مثل النجارة، لحاجتها إلى تقطيع وقص الخشب والخياطة من أجل المكونات القماشية في كل قطعة، واستخدام الدهان المناسب للخشب لجعله أقرب إلى الواقع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى رغم صغر حجم كل قطعة إلا أنها تحتاج إلى وقت لإنجازها بسبب دقة التفاصيل ووجوب الحفاظ على الأبعاد والمسافات ما بين القطع لتعكس صدقية أكثر، إضافة إلى وجود مواد مختلفة ضمن المجسم نفسه، ولهذا فلكل قطعة وقت إنجاز يختلف عن الأخرى.
التعلم والتجربة سر إتقان هذا الفن
وتوضح منار أن هذه الهواية تحتاج متابعة وتطويراً دائمين عبر القراءة ومشاهدة كثير عن هذا الفن والتعرف إلى تقنياته وأساليبه، إضافة إلى محاولة التغلب على كثير من الصعوبات خلال التطبيق، ففي كل مرة تتعلم شيئاً جديداً يتعلق بالمصغرات، مثل المواد اللاصقة على سبيل المثال، بخاصة أن القطع الصغيرة تحتاج إلى دقة كبيرة في إلصاقها ووقتاً لتجفيفها.
وحاولت منار تحويل هوايتها هذه إلى عمل دائم إلا أنها تراجعت لأسباب كثيرة تتعلق بالكلف العالية لهذه المهنة، والوقت الذي تحتاجه إلى إنجاز كل قطعة، وهذا برأيها يأخذ وقتاً يمنعها من تطوير موهبتها وصنع الأشكال التي تحبها، إضافة إلى وجود المسؤوليات المنزلية ورعاية الأطفال. لكنها وبعد تجربة قررت أن أي تحول لهذه الهواية إلى مهنة سيتم من خلال إعطاء دورات تدريبية وتعليم من يرغب هذا الفن، وليس من خلال إنجاز قطع وبيعها.
أي حركة خاطئة في صناعة المصغرات قد تؤدي إلى تلف القطعة بأكملها (اندبندنت عربية)
المصغرات فن قديم - حديث
ويعتبر فن المصغرات من الفنون القديمة جداً، إذ استخدمته الحضارات السابقة لعمل تماثيل صغيرة تحاكي أشخاصاً أو كائنات حية أخرى، وهذا يمكن رؤيته في مقتنيات بعض المتاحف، وقد تطور من الرسم المصغر الذي كان على الجدران أو الألواح لتجسيد الحياة اليومية أو لحظات مهمة في حياة الحضارات السابقة، وهناك عدد من المواد المستخدمة في عمل هذه المصغرات مثل الورق والمعادن والخشب والقماش والطين والقش، وله استخدامات كثيرة مثل الديكورات المنزلية أو ألعاب الأطفال أو المقتنيات في المتاحف، أو حتى قد يستخدم في عمليات التصوير والخدع السينمائية أثناء إعداد الأفلام والمسلسلات التلفزيونية.