تخفي مدن الجبل الأخضر الليبي المتناثرة على سهوله وهضابه وقممه الجميلة، الكثير من الكنوز التاريخية والأثرية البالغة الأهمية، التي لم يسلط الضوء عليها بشكل يبرز قيمتها الكبيرة، ويحفز النشاط السياحي الذي يعتبر من أكثر القطاعات الواعدة في ليبيا التي لم تستثمر حتى يومنا هذا.
من أهم المعالم الأثرية التي يعج بها الجبل الأخضر "فسيفساء قصر ليبيا"، المكتشفة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ومجموعها 50 قطعة فنية فريدة، يعود تاريخها إلى العهد البيزنطي في البلاد (القرنين الخامس والسادس ميلادي)، ولا تزال في حالة ممتازة. وتبرز بينها قطعة فريدة لمنارة الاسكندرية الأسطورية، وتعتبر الصورة الوحيدة التي تصور شكلها كاملاً قبل انهيارها واندثار معالمها.
موقع مميز
تقع قرية قصر ليبيا وسط الجبل الأخضر على بعد 150 كيلومتراً شرق بنغازي، وسط مناظر خلابة، تمتزج فيها خضرة المزارع الأنيقة بغطاء نباتي طبيعي كثيف، تحيطها سهول مترامية الأطراف، تتناثر فيها حجارة الكنائس البيزنطية، التي تعتبر أبرز وأهم معالمها السياحية، لتجمع البلدة الصغيرة بين جمال الطبيعة وفخامة التاريخ العريق.
يشكل متحف الفسيفساء داخل الكنيسة الواقعة شمال التجمع السكني للبلدة، المعلم الأبرز في القرية، وأهم المزارات السياحية فيها، التي أكسبت القرية شهرة واسعة منذ عقود، وتحديداً منذ عام 1957، عندما اكتشفت أرضيات فسيفساء في إحدى الكنائس القديمة التي كانت أسقفية عرفت باسم "أولبيا"، قبل أن يطلق عليها الإمبراطور جستنيان (527-565م) اسم "ثيودورياس" المشتق من اسم زوجته ثيودورا (527-548م)، التي كانت مستقرة في الإقليم قبل زواجها منه.
اكتشفت فسيفساء قصر ليبيا تحت أرضية كنيسة بيزنطية قديمة بنيت بين القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد (صفحة متحف قصر ليبيا على فيسبوك)
اكتشاف ثمين
تم اكتشاف أول فسيفساء تعود للعهد البيزنطي في قصر ليبيا عام 1957 عندما عثر عامل على قطعة بالصدفة، حينها خضعت المنطقة للدراسة من قبل أستاذ فرنسي وفريق من هيئة الآثار الليبية، ليجدوا لاحقاً أرضية كاملة من الفسيفساء تحتوي على 50 لوحة، كلها سليمة.
كما أسفرت عمليات البحث والتنقيب عن تحديد كنيستين في المنطقة، أولهما الكنيسة الشرقية التي تم اكتشافها عام 1957، والثانية هي الكنيسة الغربية، التي تم اكتشافها عام 1964.
حشد من الرموز
بعد اكتمال عمليات التنقيب عن آثار الكنيستين الشرقية والغربية، وإماطة اللثام عن أبرز محتوياتها المتمثلة في أرضيات فسيفساء تبرز قوام الفن البيزنطي الذي زين الكنائس، جرى نقل ما تم اكتشافه بالكنيسة الشرقية إلى داخل متحف يتألف من قاعة فسيحة وزعت على جدرانها 20 لوحة فسيفساء تعالج مواضيعها معتقدات دينية مسيحية.
عرضت هذه اللوحات بالمتحف وفق تسلسل يظهر معاني ودلالات تلك الأعمال التي جسد بعضها أشكالاً ترمز إلى أبراج السماء وأنهار الجنة ومدن قديمة وغيرها من المعتقدات السائدة في تلك الفترة، تختلط فيها الأفكار والمعتقدات.
كما تحوي هذه الفسيفساء على بعض الكتابات الإغريقية، وتعد عموماً أروع ما عثر عليه من فسيفساء في ليبيا تعود إلى العصر البيزنطي من حيث موضوعاتها الزخرفية وتنوع مشاهدها.
الكنيسة الغربية صممت بالأصل كحصن (صفحة متحف قصر ليبيا على فيسبوك)
صورة نادرة
يضم المتحف أيضاً لوحة فسيفسائية نادرة لمنارة الاسكندرية، وهي إحدى عجائب الدنيا السبع القديمة التي بنيت في عهد بطليموس الثاني (285-246 ق.م.) ودمرت في زلزال عام 1302، ولم يبق إلا هذه اللوحة لتوضح شكلها التقريبي، إضافة إلى أرضية فسيفسائية عثر عليها في الحجرة الشمالية الشرقية من الكنيسة "الشرقية"، حملت مشاهد متنوعة أغلبها لحيوانات وطيور وزخارف هندسية، وكتابة تشير إلى أنها صممت في عصر الأسقف ثيودوروس.
كما توجد بالمتحف أرضية فسيفسائية أخرى كانت تزين الساحة المقدسة في الكنيسة الشرقية عرضت حالياً في الكنيسة الغربية، التي تحولت إلى قلعة تركية ثم استعملت أثناء الاحتلال الإيطالي، وقد زخرفت بصلبان وأشكال هندسية متنوعة.
مصمم تحف الكنيسة
وفق لوحة التدشين المعروضة في المتحف فإن الأسقف "مكاريوس" مؤسس الكنيسة، كان المشرف الرئيس على تنفيذ هذه الأعمال، حيث وقف على تزيين فسيفساء صحن الكنيسة في الفترة ما بين 538-539م، وبعد وفاته عهد بالمهمة إلى الأسقف الجديد "ثيودوروس"، الذي أشرف على تزيين الحجرة الشمالية الشرقية وعلى فسيفساء الساحة المقدسة التي شيدت في فترة لاحقة.
تشتهر بلدة قصر ليبيا أيضاً، إضافة إلى أطلالها البيزنطية وأرضياتها الفسيفسائية المذهلة، بحصن كبير لا يزال صامداً في وجه الزمن، يحوي أيضاً كنوزاً أثرية ثمينة مع تصميم هندسي مدهش، حيث تتيح جدران هذا الحصن الضخمة وأبراج المراقبة الدائرية الشاهقة رؤية بمعدل 360 درجة لمنطقة الجبل الأخضر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تحولات تاريخية
عرفت بلدة قصر ليبيا تحولات كثيرة في فترة ازدهارها بالقرن الخامس الميلادي، بحسب أستاذ التاريخ في جامعة البيضاء أحمد البرعصي، الذي بين أن "المدينة عرفت بأسماء مختلفة عبر التاريخ، بداية من القرن الخامس حين عرفت المدينة باسم أولبيا، وهي التي اشتق منها الاسم الحالي قصر ليبيا".
وأضاف أن "المدينة تأثرت لاحقاً بشدة من هجمات الوندال والنوميديين الذين احتلوا أجزاء من شمال أفريقيا في النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي والربع الأول من القرن السادس للميلاد، ثم قام الإمبراطور البيزنطي جستنيان بإعادة تأسيسها عام 539، حيث أطلق عليها اسم "ثيودورياس" نسبة لزوجته ثيودورا التي نشأت في أبولونيا المجاورة والتي تعرف حالياً باسم سوسة".
ويوضح البرعصي أهم المعالم التاريخية التي تزخر بها هذه المدينة بقوله "أهم ما يوجد في منطقة قصر ليبيا من آثار، بقايا كنيستين إحداهما تسمى الكنيسة الغربية وهي من طراز الكنائس الصليبية التي تعتبر من الكنائس النادرة في منطقة شمال أفريقيا بشكل عام، والكنيسة الغربية وهي عبارة عن كنيسة صممت بالأصل كحصن".
ويتابع "عام 1972، تم افتتاح متحف أثري صغير بالقرب من الكنيسة الغربية، والمعروف باسم (متحف الفسيفساء البيزنطي)، ويعرض المتحف الصغير قطعاً من الفسيفساء تنتمي إلى الكنيسة الغربية بما في ذلك قطعة فسيفساء نادرة تظهر شكل منارة الاسكندرية، إحدى عجائب الدنيا السبع القديمة، إذ تعتبر الفسيفساء الأرضية من بين أعظم الكنوز الفنية والأثرية في ليبيا".
كما أوضح أن "هناك 50 لوحة فسيفسائية مربعة الشكل أبعادها (65*65 سم) وتحمل مواضيع متنوعة معمارية وأسطورية وحيوانية وآدمية وهندسية وبحرية، ويعتقد علماء آثار أنه يوجد عدد أكبر من الكنائس في المنطقة، لكن حتى الآن لم يتم التنقيب فيها بشكل يغطيها كلها".