«فاغنر» بعد التمرد!

منذ 1 سنة 175

لا شك في أن التمرد الذي نفذه مؤسس «فاغنر» وقائدها يفغيني بريغوجين مؤخراً في روسيا، يمثل تحدياً كبيراً للسياسة الروسية وللرئيس فلاديمير بوتين شخصياً؛ سواء في المستوى الداخلي أو في المستوى الخارجي. ولئن كان الأمر يتعلق بواقع السلطة وصراعاتها في المستوى الداخلي، فإنه يتعلق في المستوى الخارجي بوجود روسيا وسياساتها وعلاقاتها في المحيطين الإقليمي والدولي.

ففي الجانب الأول، ظهر التمرد بمثابة انقسام في القوة الأساسية للنظام بين المؤسسة العسكرية ممثلة بوزارة الدفاع وقادتها من كبار الضباط، والقوة الرديفة التي تمثلها منظمة «فاغنر» التي أسسها ويقودها بريغوجين. ورغم التفاوت في الأهمية بين القوتين من حيث العدد والإمكانات والإطار القانوني، فإن الطرفين في اختلافهما وصراعهما يعكسان تمايزاً له قواعد مختلفة ذات تأثير يتجاوز حدود اختلاف العدد والإمكانات والإطار القانوني.

وقد ظهرت تعبيرات الاختلاف قبل التمرد وخلاله، كان منها الدور المختلف من حيث مجريات ونتائج عمليات قوات «فاغنر» في الحرب الروسية - الأوكرانية، ومنها الصوت المرتفع لرئيس «فاغنر» في مطالبته محاسبة وزير الدفاع وكبار جنرالات الجيش عن تقصيرهم وارتكاباتهم في حرب أوكرانيا، ومنها أيضاً الحماسة والترحيب اللذان قوبل بهما تمرد «فاغنر» في أوساط المتطرفين القوميين والشبان الروس.

وبطبيعة الحال، فإن ضجيج «فاغنر» بدأ قبل التمرد بأشهر مندداً ومتحدياً وزير الدفاع وجنرالات الجيش، وسط سكوت الرئيس عن سلوك رئيس «فاغنر» وهجماته، ما منع المؤسسة العسكرية عن رد قوي ومعلن؛ بل جعلها تلجأ (حسب خصمها) إلى إجراءات تؤخر وصول الدعم المطلوب إلى قوات «فاغنر» في جبهات الحرب، والتسبب في خسائر بشرية في مواقعها. ولا شك في أن بين الأسباب المباشرة لسلوك قيادة الجيش قدرتها المحدودة في تحقيق انتصارات نوعية في الحرب الأوكرانية، مقارنة بما كان يظهر في أعمال «فاغنر» هناك. وفي المحصلة كان موقفها ضعيفاً في المنافسة مع «فاغنر» وصوت رئيسها المرتفع سعياً لتعزيز مكانته على حساب قادة المؤسسة العسكرية، وبخاصة وزير الدفاع سيرغي شويغو.

إن ما ظهر من تحديات داخلية في الانقسامات الروسية، كان محصلة لوجود ودور «فاغنر» في الداخل الروسي، بخلاف ما تركه وجودها ودورها الخارجي من نتائج، جاءت في سياق جهود وأعمال قامت بها «فاغنر»، انعكست إيجابياً على وجود روسيا وسياساتها في غالبية البلدان التي دخلتها، فحققت «إنجازات إيجابية» لسياسة موسكو، من دون أن تحملها أياً من خطايا تلك السياسات؛ لأن موسكو كانت في كل الأحوال تنكر علاقاتها مع «فاغنر»، وتشيع أن الأخيرة ليست سوى شركة أمنية روسية، لا ترتبط بسياسات ومواقف روسيا.

ومما لا شك فيه، أن منظمة «فاغنر» وما يماثلها من كيانات، بمثابة «صندوق أسود»، لا يظهر من أعمالها سوى ما تعلن عنه، أو ما يتم اكتشافه بالصدفة، أو عبر جهود خصومها في ملاحقتها، ما يعني أن الحديث عن «فاغنر» لا يتناول إلا ما هو معروف من أعمالها، والتي قد يكون في قائمتها ما هو مختلف، ويصل إلى مستوى الجريمة المنظمة، بخاصة في ضوء التاريخ الأسود لمؤسسها ولأغلب المنتسبين إليها.

إن الأبرز والأكثر شهرة في أعمال «فاغنر» التي امتدت عبر ثلاث قارات، هو مشاركتها في الحرب الروسية – الأوكرانية. ورغم محدودية مقاتليها هناك البالغين 25 ألفاً مقابل مئات آلاف الجنود الروس، فقد تركت بصماتها في نتائج المعارك بسبب طبيعة المنتسبين إليها ومواصفاتهم وتسليحهم وإدارتهم، ما جعلهم موضع فخر القيادة الروسية.

وبين الأدوار المهمة في سجل عمليات «فاغنر» دورها في حرب سوريا، وقد بدأ بعيد التدخل العسكري الروسي في سوريا عام 2015، وسط إعلان واضح تكرر عدة مرات أنها لا تتبع القوات الروسية، وليست جزءاً منها؛ لكنها من الناحية العملية كانت الوجه الأكثر دموية للوجود الروسي هناك؛ حيث مارست عمليات قذرة، بعضها في ملفات المحاكم الروسية، وقامت بمحاولات استيلاء على حقول نفط، كلفت واحدة فاشلة منها عشرات القتلى من جنود «فاغنر» على يد الأميركيين.

ويمتد حضور «فاغنر» وأعمالها في عدد من الدول الأفريقية، بينها ليبيا والسودان ومالي، ورغم أن أعمالها بغالبيتها كانت تندرج في سياق الصراعات الداخلية، وفيها عمليات قتل وإخضاع، فإن بعضها يشمل الحماية والتدريب وعمليات نهب الموارد المحلية.

ولا يحتاج إلى تأكيد، أن أعمال «فاغنر» في البلدان الأفريقية على غرار ما عليه الحال في غيرها، تحظى بتأييد ودعم الحكومة الروسية؛ بل أيضاً بتمويلها؛ حيث قال بوتين مؤخراً إن روسيا موّلت أعمال «فاغنر» في العام الماضي بـ100 مليار دولار، وجاء بعده تصريح وزير الخارجية سيرغي لافروف، بأن أعمال وأدوار «فاغنر» مستمرة حتى بعد التمرد.

خلاصة الأمر: أن تمرد «فاغنر» ترك أثره المباشر على رئيسها بريغوجين وبعض المقربين منه بدفعهم إلى منفى مجاور، أما على المنظمة، فإنه لم يؤثر على وجودها ولا على دورها؛ بل إن ثمة حرصاً رسمياً على ذلك بما تقدمه من دور وخدمات تدعم سياسات ومواقف روسيا في أكثر الأماكن الحساسة للمصالح الروسية، ولا يمكن فهم أفكار بوتين حول مصير «فاغنر» في دمجها مع الجيش الروسي أو عودة منتسبيها إلى حياتهم الاعتيادية، سوى أنها تفكير علني ببعض ما يمكن القيام به بصدد «فاغنر»؛ لكن عندما يهدأ الوضع وتبرد آثار التمرد، فإن التفكير سوف يتركز أكثر على سبل إعادة إحياء وتطوير «فاغنر» وأعمالها؛ ليس لأنها تجنب روسيا القيام بأعمال وتنفيذ سياسات فقط؛ بل لأنها أيضاً «بقرة حلوب»، تجلب مزيداً من المكاسب؛ لا سيما في المجالين السياسي - العسكري من جهة، والمادي لروسيا من جهة أخرى.