ماذا تريد حركة «حماس»؟ الجواب: تحرير فلسطين كلها؛ وماذا تريد السلطة الفلسطينية: تريد بالحد الأقصى ما تريده «حماس»، وبالحد الأدنى، بمنظار الواقعية، حل الدولتين. وبالمعيار ذاته تُصنف الدول العربية مع حل الدولتين، وتُصنف إيران مع إزالة إسرائيل. هكذا أصبحت السلطة الفلسطينية خائنة، لأنَّها تتعاون مع الاحتلال، وأصبح العرب انهزاميين لأنَّهم يريدون التفاوض، وأصبحت إيران الداعمة لـ«حماس» قمة الثورية. وفق ذلك برز مصطلح محور المقاومة الثائر، ومحور الدولة المستسلم، وعليه فإنَّ «غزوة» «حماس» قمة الثورية، وموقف محور الدولة قمة الانهزام.
هذا المنطق يعتريه خلل جسيم لتأسسه على تصورات ذاتية بحتة دونما أي اعتبارات للواقع والظروف. فتصور حركة المقاومة يقوم على إثخان العدو، وإبقاء بريق القضية مشتعلاً، رغم الإدراك التام بصعوبة إنهاء إسرائيل؛ بينما يرى محور الدولة أن إسرائيل موجودة قانونياً وعسكرياً، وأن إزالتها، في ظل الظروف الحالية والمستقبلية، مستبعدة جداً، وبالتالي لا بد من إيجاد حلول تنهي حالة اللاحرب، والتفرغ لبناء الاقتصاد، ومعالجة حرائق أشعلتها الثورية الإيرانية في المنطقة، وفتتت دولها. وبما أن تصور المقاومة إبقاء بريق القضية فلا بد من ضربات وهجمات على إسرائيل لإشعارها بأنها غير آمنة، وبأن تحقب حقائبها وتترك الأرض؛ وبما أن الإسرائيليين لم يستجيبوا كان تكتيك محور المقاومة، كما خطط له قائد «الحرس الثوري»، الراحل قاسم سليماني، بإنشاء «زنار نار» يطوق إسرائيل، يمثله محور المقاومة بإشراف إيران الثورة. وبناء عليه، فإنَّ غزوة «حماس» الأخيرة، وقتلها مستوطنين، وجلبها أسرى مدنيين بينهم نساء وشباب وصبيان وبنات ومسنات وجنود إلى قطاع غزة، مثلت تطوراً متقدماً في تكتيك محور المقاومة، لكون هذه الهجمة مختلفة عما سبقها من حيث التخطيط والقوة والضرر، والإثخان. أمطرت «حماس» إسرائيل بالآلاف من القذائف، وقتلت ما يفوق الألف إسرائيلي، وأسرت ما يزيد على المائة والثلاثين بعضهم نساء وأطفال ومسنون.
المشكلة أن هذه الهجمة كإنجاز عسكري باهر لا يمكن أن تحقق غاية على أرض السياسة، لأنَّ «حماس» لا تؤمن بحل سياسي، ولا بتفاوض إلا إذا كان يؤدي إلى انسحاب إسرائيل من أراضي فلسطين. حركة «حماس» ترفض فكرة حل الدولتين، وترفض فكرة التفاوض وفق إطار يعترف بوجود إسرائيل، وبالتالي فإن حربها هي غزوات متتالية لا تنتهي، وتكتيك متراكم يؤدي إلى إحداث تغيرات مهمة ليس في داخل إسرائيل فحسب، بل داخل «محور الدولة» المؤيد جمهوره، بحكم قدسية القضية، وحقوق الفلسطينيين. هذا التكتيك سيرفع سقف الخوف داخل إسرائيل، وسيحملها على صب عنف أكبر على الفلسطينيين في قطاع غزة، وسيزيد كذلك حنق الجمهور العربي المشاهد لقتل المدنيين، ودمار المساكن، وتفجير المساجد، والبنية التحتية، وسيرفع منسوب إحباطه لأن حكوماته لا تستطيع تغيير المعادلة غير المتكافئة.
المفتقد في هذا السرد غياب العقلانية، لأن أي مراجعة لتاريخ الصراع مع إسرائيل، وكيف انتهى بهزائم وليس بنكسات، ولموازين القوى، ومركز إسرائيل في استراتيجيات دول الغرب، وحتى الشرق؛ ستؤكد أن محور الدولة وعى، بعد تضحيات، أن محاربة إسرائيل ترقى عملياً لمحاربة أميركا، ومن ورائها الغرب. هذا الدرس المهم تجلى بقوة في غزوة غزة، حيث تدخلت أميركا بقوة، وأدانت، ومعها دول الغرب حركة «حماس»، ووصفتها بالإرهابية، وقارنتها بـ«داعش»، وأمطرت على إسرائيل دعماً مالياً سخياً، وتبرعات عسكرية ولوجيستية، ووفرت كل ما تطلبه مستقبلاً للدفاع عن نفسها؛ هذا أعطى حكومة إسرائيل بطاقة «مسامحة» لتفعل ما تشاء في غزة. هذه المسامحة نابعة من تفسير أن همجية «حماس» تستدعي قبول مبدأ العقاب الجماعي، وتجاهل كل مواد القانون الإنساني، وقوانين الحرب؛ ويرافق الموقف الأميركي والغربي صمت عجيب من الصين، وموسكو والهند، وإعلان براءة من إيران.
ماذا نستنتج من كل هذا؟
نستنتج أولاً، عقم تكتيك حركة «حماس»، لأنها تستخدم القوة من دون هدف سياسي وسيط، ولأنها ترى أن الحل إزالة الكيان الإسرائيلي، رغم كل ما هو مشاهد على أرض الواقع من استحالة تحقيقه. ثانياً: خلل في تركيبة محور المقاومة لأن ما حدث في غزة أثبت عقم نظرية «زنار النار» الذي بقي خامداً؛ «حزب الله» تبرأ من العملية في غزة بمعنى المشاركة فيها، وكذلك فعلت إيران على لسان المرشد والمسؤولين، والعراق أعلن أنه لن يسمح بأن تكون أرضه معبراً للهجوم على دولة أخرى، وسوريا المجزأة أعجز من أن ترد لأنَّها تتعرض شهرياً لزيارات صواريخ إسرائيل وطائراتها. ثالثاً: ليس لدى محور المقاومة القدرة على مداوة جراحات تبعات العمل العسكري؛ فتدمير إسرائيل للبنية التحتية، وإسعاف الجرحى، وتوفير الغذاء والدواء يتطلب مليارات غير متوفرة لمحور المقاومة، أو أنه قصداً لا يرى فائدة في إنفاقها على هذا الهدف النبيل. هذه الجراح النازفة تصبح بحكم الواقع من مسؤولية محور الدولة؛ فالأنظار تتجه دوماً إلى دول الخليج لإعادة البناء، وإلى مصر للعب دور الوسيط بين إسرائيل و«حماس»، ثم على تلك الدول تقع مسؤولية حمل القضية إلى منابر العالم، والدفاع عن الفلسطينيين، والمناداة بحلول واقعية مثل حل الدولتين. بالمقابل، فإن محور الدولة، المعرض دوماً لتعديات محور المقاومة لا قول له ولا رأي في تحركات أو غزوات «حماس»، ولا في تصوراتها، بل إنه يحمل نقيضها، ويرى التفاوض استراتيجية رابحة في ظل الظروف الصعبة، تمكن الفلسطينيين من إقامة دولة تخفف عذاباتهم وتشردهم. الأغرب أن محور الدولة المثقل بهذا الهم يصمه محور المقاومة بالتآمر وتصفية القضية.
هذا الصراع العبثي سيبقى متسيداً للساحة، لأنه لا محور الدولة قادر على أن يتخلى عن قضية فلسطين وشعبها، ولا محور المقاومة يريد عقلنة النزاع، والسبب أن قلب المحور (إيران) يشعل المنطقة للهيمنة عليها، بينما المحور الآخر يسعى لإطفائها، وإيجاد الحلول بدلاً من حروب لا تنتهي.