غرائب خلف القضبان.. كيف تحولت رقبة طبيبة من المشنقة للبراءة

منذ 1 سنة 122

يروى هذه الحلقة المستشار بهاء الدين أبو شقة فى كتابه "أغرب القضايا..

ويروى المستشار بهاء أبو شقة تلك القصة، أنه فى إحدى الأيام فوجئ بإحدى السيدات تنتظره على باب مسكنه وتعطيه ظرفا مغلقا كرسالة من طبيبة من داخل سجن القناطر الخيرية " سجن النسا"، وأصرت على أن يقرأها أمامها للتأكد من إيصال الرسالة التى وعدت بإيصالها.

قمت بفض الرسالة.. كانت الرسالة تقتر حزنا وصورة مجسمة مـن الخسة والندالة والغدر وانعـدام الضـمير.. كانـت سـطورها مفعمـة بالبكـاء والأسى.

روت لى صاحبتها الطبيبة السجينة قصتها بكل ما فيها من مـرارة، أنها كارثة بل مصيبة كبرى حلت على رأسها كالمطرقة وريـح عاتيـة بقسوة فاقتلعت حياتها من جذورها بلا هوادة ولا رحمة. بعد أن عانت مـرارة الاتهام ومعاناة محاكمتها التى انتهت بمعاقبتها بالإعدام شنقا عن تهمة تتسـم بالبشاعة والوحشية وانعدام العقل والضمير. قتل ابنة ضرتها عمدا مع سـبق الإصرار والترصد وحرقها. وأقسمت مرارا وتكرارا قسما مغلظا بين سطور خطابها بأنها بريئة وبأنها لم ترتكب هذه الجريمة البشعة الشنعاء المجـردة من كل معانى الإنسانية والرحمة.

الرسالة التى امتلأت بالغموض والحيرة دفعت المستشار بهاء أبو شقة لقبول الدفاع عن الطبيبة، وطلب كافة أوراق القضية وكل الأحداث التى مرت بها.

أوراق القضية كشفت شخصية زوج الطبيبة المتهمة، فقد كان شابا وسيما اعتاد على قضاء الليالى الحمراء، يستهوى النساء ويوقع من يريد فى حبه بإطلالته وحسن مظهره.

ووجد ضالته المنشودة فى إحـدى الفتيـات.. كانـت ثريـة ابنـة تـاجر كبير..دخل الأسرة ونفذ إلى قلب الفتاة َّ وكأنه ميكروب فتاك لعين ينفذ خلسة ليفتك بصاحبه فلا يحس به إلا وقد أشرف على الهـلاك.. بحديثه المعسول وأساليبه الملتوية.. اتخذ التاجر منه ابنا َ وزوجه ابنته ّوأعد لـه شـقة فـاخرة فى عمارته.. وكانت تغدق عليه بسخاء من مال أبيها الذى كـان لا يبخـل عليهـا بشيء.

ومرت الأيام وهو يرتع فى هذا النعيم، وقد بهر زوجته بحديثه العذب على نحو حال بينها وبين الوقوف على حقيقة واقعة، وانقضت ضائقة مالية على والدها تزايدت مع الأيام وبدأت تتكشف يوما بعد يوم.. وانتهـت بإشهار إفلاسه. ونضبت "حنفية" الثراء وجف ماؤها، وقلت النقود فى جيبه.. هنا كشف عن وجهه القبيح وتبخرت كلمات الحب والهيام والغرام التى كان يمطر بها زوجته صباحا ومساء إلى سب وقذف ولعن.. وكشر عن أنيابه وفى خسة ونذالة طلقها بعد أن أتى على آخر مليم معها.. وأخذ معه ابنته الوحيدة تاركا طليقته وحيدة مفلسة غارقة فى بحور الالم والحسرة والندم.

وبدأ يبحث عن صيد جديد.. عن بقرة حلوب يستنزفها.. عن فريسة جديدة يلتهمها، ولأنه الصياد الماهر الذى لا تخطئ سهامه فى صيد فريسته التى تقع تحت بصره.. فقد وجه سهامه نحو تلك الطبيبة التى التقى بها فى عيادتها الخاصة بعد أن عرف كل ظروفها وجمع كافة المعلومات العامة والخاصة عناه.. كانت على وشك أن يفوتها قطار الزواج وأن تلحق بقطار العوانس.. كانت دميمة ترتدى "نظارة" سميكة متهالكة.. شعرها "اكرت".. ليس بها مسحة جمال تغرى أى شاب على التفكير فى الارتباط بها.. ولكنها فى المقابل وهو المهم بالنسبة لهذا الشاب، كانت تملك أرصدة كبيرة فى البنوك فقد عاشت فترة من الزمن تعمل ببلاد النفط.

وبأ العنكبوت ينسج خيوطه حولها، ولم تصمد طويلا أمام فنونه ودرايته وخبرته فى الإيقاع بالنساء.. تمت الخطة ووقعت الفريسة فى الزواج، وبمرور الأيام تحولت إلى "عجينة" بين أسنانه.. وزاد لين هذه العجينة حينما تبين أنها عاقر.. وبدلا من أن تتخذ من الطفلة ابنة زوجها ابنة لها تعوضها عن أمومتها المفقودة، بدأت تفتح النيران على الطفلة وتملكتها الغيرة منها.. وكلما نظرت إليها تذكرت كلمات الجمال التى كان يرددها والد الطفلة عن أمها، وقررت منع الطفلة من الاتصال بأمها بأية وسيلة، ومنعها من الخروج والاتصال بالتليفون، بالإضافة للتجسس على زوجها خوفا من أن يتركها.

أحس الزوج أنها أصبحت كابوسا تجثم على صدره وقيدا على نزواته ومغامراته الطائشة، وذات مرة عادت الطبيبة من عملها ورأت الطفلة تتحدث مع أمهـا فى التليفون فلم تتمالك نفسها وانهالت عليها بالضرب المبرح وزادت صرخات الطفلة وحضر الجيران وأنقذوها من بين يـديها.. وشـكت الطفلـة للجيـران سوء معاملة زوجة أبيها لهـا، وأنهـا تهـددها بكيهـا بالنـار والمـوت لـو َّأنهـا تحدثت مع أمها مرة أخرى.

ولم تمض على هذه الواقعة سوى أيام قليلة.. خرجت الطبيبـة لعملهـا بالمستشفى كالمعتاد وتركت الطفلـة وحـدها كالعـادة بالشـقة.. وعـادت فى الظهيرة ودقت جرس البـاب ولم يفـتح أحـد.. اعتقـدت للوهلـة الأولى أن الطفلة نائمة وقامت بفتح الباب بالمفتاح الذى تحمله معها.. ودخلت الشقة ونادت عليها ولم يرد أحد، وما أن فتحت باب إحدى الغرف الخاليـة بالشـقة تسمرت فى مكانها عندما وجدت الطفلة ملقـاة عـلى الأرض وهـى جثـة متفحمة.. وعقدت المفاجأة لسانها لبرهة يسيرة وخرجت تصـرخ وتسـتغيث بالجيران.

وحضـر الـزوج وبكـى بكـاء مريرا بهيستيريا وهو يصرخ بأنه فقد أعز شيء لديه.. خسر ابنته الوحيدة التى خرج بها من الدنيا.. أمله الوحيد فى الحياة.. فلم يكن أمامه فى الحياة من أمل فى الذرية سواها خاصة وأن زوجته الطبيبة عاقر.. وكال لزوجته الاتهام.. وهم فى ثورته العارمة بالاعتداء عليها.. لولا إبعاد رجال الشرطة لـه، وصاح الأب وصرخ صرخة مـن أعماقه َّ اهتزت لها قلوب رجال التحقيق.. الحقيقة واضـحة مثـل الشـمس.. هى التى قتلت ابنتها وحرقتها وأنهـا مجرمـة آثمـة يـديها ملوثـة بـدماء ابنتـه.

واستشهد الزوج بالجيران الذين أيدوا روايته كاملة وشهدوا بما رأوه من إهانات واعتداءات بالضرب على الطفلة.. وأنهم كثيرا ما سمعوا صراخها وهى تستغيث من اعتداءات زوجة أبيها، وانتهى الزوج فى شهادته على الإصرار بطلب القصاص العادل منها حتى لا يضيع دم ابنته الوحيدة هدرا، وأنه لن يرتاح له بال ولن يهدأ له حال إلا وحبل " عشماوى" قد لف على رقبتها.

وبالفعل قضت محكمة أول درجة بإعدام الزوجة بالإعدام شنقا بتهمة قتل الطفلة مع سبق الإصرار والترصد.

ويقول المستشار بهاء أبو شقة، استوقف نظرى أنه بالكشف الظاهرى على الجثة تبين أنها لفتى فى الثانية عشر من العمر.. ولأن الجثة كانت متفحمة فان الطبيب الشرعى لم يستطع أن يحدد كيفية الاعتداء الذى وقع على المجنى عليها، والالة المستخدمة فى الاعتداء، فكانت كلمة "فتى" الذى يبلغ من العمر أثنى عشر عاما هى طوق النجاة، هى المفتاح الذى سيفتح الأبواب المغلقة على الحقيقة إلى قدر لها أن تقبر خلف هذه الأبواب.

قبلت محكمة النقض الاستئناف على الحكم، وإعادة محاكمة الطبيبة أمام محكمة أخرى، وفى جلسة النطق بالحكم حضر الطبيب الشرعى وسأله أبو شقة عما إذا كانت الجثة التى عاينها لفتى أم لولد.. فأجاب أنه عاين جثة لولد عمره أثنى عشرة عام وليس لطفلة، ثم سأل الزوج ما قولك فى أقوال الطبيب الشرعى الذى يؤكد أن الجثة التى قام بالكشف عنها لطفل فى الثانية عشر من عمره، فى حين أن ابنتك طفلة ولم تتعدى السابعة من عمرها؟.. فلم يجيب وتفوه بعبارات للطبيب الشرعى.

رفعت المحكمة الجلسة لمدة 4 ساعات.. وجاءت لحظة الحسم.. قررت المحكمة ببراءة المتهمة مما أسند إليها من اتهام.

بعد مرور فترة من الزمن وذات يوم جاءت الطبيبة لزيارة المستشار بهاء أبو شقة كالمعتاد.. كان الحزن يمـلأ عينيهـا وهـى ترتدى ملابس الحداد, وأخبرتنى بصوت مفجوع بأن زوجها قد لقى حتفه فى الخارج فى حادث أليم.. إذ اكتشفت زوجتـه الأجنبيـة التـى تكبـره بعشـرات السنين َّأنه يعبث بمشاعرها.. وبخيانتـه لهـا.. واسـتيلائه عـلى أموالهـا التـى ائتمنته عليها وألقت يده فى التصرف فيها.. كما اكتشـفت وتأكـدت َّأنـه قـد أعد الخطة للتخلص منها والهرب بأموالها.. فقررت الخلاص منـه حتـى لا ينعم بثروتها.

وكانت المفاجأة الكبرى التى هزت كيانها.. وبدت شعورها نحوه وأنه كان وهما لا يستحق أن ابنته مازالت على قيد الحياة، وأنها كانت فى صحبته فى الخارج وقد أعادتها السفارة إلى أمها.

ونشطت الشرطة بعد هذا البلاغ وأجرت التحريات  بحثـا عـن الحقيقـة، وقد تحققت من هذه التحريات أن الـزوج هـو الـذى دبرهـا لكـى بتخلص من زوجته الطبيبة ويعيش مع صيده الجديد ويرث أموالها بعـد إعـدامها.. ودبر فى ندالة وخسة بلا ضـمير لإنجـاح فكرتـه الشـيطانية فـاتفق مـع «تربى» كى يحضر له جثة فتاة فى سن ابنته توفيـت فى توهـا.. موهمـا إيـاه َّأنـه أستاذ بكلية الطب حتى يدرب الطلاب عليها، إلا أن القدر لم ينصفه ووقـف إلى جانـب زوجتـه لينقـذها مـن حبـل المشـنقة، إذ لم يتمكن «التربى» من العثور على جثة لطفلة ميتة  حديثا.. وكل ما وقع تحت يده جثة هذا الطفل.. فقدمها إليه.. وتسلمها منه فى عجلة من أمره.. دون أن يتبين أمر هذه الجثة.. ووضعها فى عجالة فى الشـقة وسـكب عليهـا البنـزين ونفـذ جريمته دون أن يدرى فيما إذا كانت الجثة  ذكرا أم أنثى وأشعل فيهـا النيـران.