ملخص
في السادس من مارس (آذار) الماضي قرر البنك المركزي المصري تحرير سعر الصرف للقضاء على السوق السوداء للدولار، في خطوة أفقدت الجنيه المصري نحو 32 في المئة من قيمته.
على غير العادة، لجأ محمد إبراهيم (37 سنة) إلى تقليص زياراته العائلية خلال أيام العيد هذا العام لعدم قدرته على توفير مبالغ تعينه على توزيع العيدية مثلما كان يفعل في السابق، ذلك على خلفية تعرضه لضائقة مادية وزيادة الأعباء المعيشية على كاهله.
بحسب محمد فإن العيدية طقس بدأ يتقلص بشكل واضح، وينحصر على دائرة محدودة من المقربين، مؤكداً أنه امتنع عن الزيارات حتى لا يتورط في توزيع مبالغ فوق طاقته في ظل عدد أطفال العائلة الكبير. مع ذلك يقول إن كثراً ما زالوا متشبثين بالحفاظ على هذه العادة إلى درجة اللجوء للاستدانة، موضحاً أنه في العام الماضي لجأ إلى بنوك التمويل للحصول على دعم مادي بقيمة 3 آلاف جنيه، لتلبية احتياجات أسرته في شهر رمضان وزيارة الأقرباء في أيام العيد، ومن أجل ذلك تقدم بأوراق تفيد عزمه تنفيذ مشروع متناهي الصغر، متسائلاً "هل يعقل إنشاء مشروع متناهي الصغر بـ3 آلاف جنيه؟".
ثمن السعادة
يرى إبراهيم أن العيدية مسألة رمزية متفاوتة على حسب الحال المادية، وهي من المظاهر الراسخة في المجتمع، فحتى الفقراء يحرصون على هذه العادة على رغم تقلصها، مشيراً إلى أن بعضاً منهم يلجأ إلى الجمعيات أو بنوك التمويل حتى يتمكنوا من ممارسة مثل هذه الطقوس.
يتفق الخمسيني موسى محمود مع الرأي السابق، معتبراً أن هذه العادة قاربت على الاندثار بفعل الغلاء والظروف المعيشية الصعبة، مما جعلها تفقد رونقها وتتحول بمرور الوقت إلى مسألة شكلية مقتصرة على دائرة محدودة من المقربين تصل أحياناً إلى الأبناء فقط، مضيفاً "شخصياً ألغيت عديداً من الزيارات التي كنت حريصاً عليها في أيام العيد لتقليل النفقات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يشرح موسى كيف تحولت هذه العادة إلى شيء مرهق مادياً، "زادت أعبائي خلال أيام العيد بسبب مضاعفة المبالغ التي كنت أخصصها لصغار العائلة من أجل إسعادهم، ولكي يتمكنوا من الاستفادة بقيمتها في ظل ارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة الجنيه".
في السادس من مارس (آذار) الماضي قرر البنك المركزي المصري تحرير سعر الصرف للقضاء على السوق السوداء للدولار في خطوة أفقدت الجنيه المصري نحو 32 في المئة من قيمته.
ويواصل موسى حديثه "كنت أستعد لهذا الطقس قبل حلول العيد بأيام من خلال تجهيز مبلغ من المال على أن تكون الوريقات المالية جديدة، وكنت أرى قديماً هذه العادة تحمل مذاقاً خاصاً قبل أن تتحول إلى مجاملات أصبحت مجبراً عليها".
بحسب موسى فإن "جائحة كورونا كانت البداية الحقيقية لتقليص هذه العادة نوعاً ما في مصر، وبعدها عزفت عن زيارة بعض الأقارب، والظروف الاقتصادية غيرت من نظرتي إلى الأمر برمته".
خفض العيدية
مع ذلك قال موسى إنه ما زال متمسكاً بهذا الطقس ولكن في أضيق الحدود، بحيث يعطي للطفل أقل من 10 سنوات مبلغاً قدره 200 جنيه كعيدية. يقول "في الماضي كنت أستعد بـ10 آلاف جنيه من الأوراق المالية الجديدة للأولاد بحسب أعمارهم، فكلما زادت تضاعف مبلغ العيدية، لكنني لا أهتم الآن بمنح أوراق مالية جديدة لهم، كما تقلص مبلغ العيدية، وكذلك الشريحة المستهدفة بها مع زيادة قيمة المبلغ المقدم".
وأشار موسى إلى أن "هذه العادة تحولت إلى وسيلة لمساعدة بعض أفراد العائلة الذين يمرون بضائقة مالية، إذ تستغل كنوع من الدعم والعمل الإنساني، بالتالي فقدت شكلها المتعارف عليه، ومواقع التواصل الاجتماعي أثرت أيضاً بشكل سلبي وأسهمت في تقلصها، بعد أن أدت إلى انعزال بعض أفراد العائلة وانشغالهم بالتواصل عبر الإنترنت، كما ساعدت هذه الوسائل في التفكك الأسري".
بحسب المؤرخين، ظهرت العيدية في العصر الفاطمي في عهد الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، بحيث بدأت بتخصيص مبالغ مالية لتوزيعها على الفقراء في هذه المناسبة، وكان يطلق عليها اسم "التوسعة". وبدأت في اتخاذ أشكال متعددة مثل "سبت العيدية"، وهو عبارة عن وعاء توضع فيه مستلزمات عيد الفطر من كعك وبسكويت وخلافه.
عزوف عن الزيارات
يتفق الستيني إبراهيم محمد على أن الغلاء والظروف المعيشية أدت بمرور الوقت إلى تقلص مظاهر الاحتفال بالعيدية، وكان حريصاً على منحها لشريحة واسعة من أقربائه، وإن تتعدد الزيارات طوال أيام العيد، لكنه اكتفى في السنوات الأخيرة بتخصيص اليوم الأول لتقديم العيدية لأبنائه فقط.
يشرح إبراهم تأثير التضخم بالقول، "خفضت بشكل كبير من الدائرة المستحقة للعيدية، وبعد أن كنت أمنح نحو 50 فرداً من العائلة مبالغ تتراوح بين 50 إلى 200 جنيه، قللت الأعداد إلى 20 فقط بقيمة تتراوح بين 500 إلى ألف جنيه للفرد الواحد"، موضحاً أن الترابط الأسري لم يعد موجوداً مثلما في الماضي، وكان شكل العيد مختلفاً بحيث تحرص جميع الأسر على التجمع في منزل كبير العائلة، وتبدأ طقوس توزيع العيدية على الأطفال، لكنها الآن تحولت إلى زيارات مرهقة مادياً.
وقال إنه يلجأ في بعض الأحيان إلى تقدم عيدية بمبالغ ضئيلة، وتحويل هذه اللحظات إلى فكاهة مصطنعة، بحيث يطلب منهم أن يحتفظوا بالعيدية كـ"تذكار"، فهو لا يريد قطع الزيارات المعتادة حتى في الأوقات التي يتعرض فيها لضائقة مادية. وعلى رغم ذلك يؤكد أنه ما زال يحرص على تقديم أوراق مالية جديدة. وقديماً كان يخصص مبلغاً قدره 15 ألف جنيه للعيدية قبل أن ينخفض إلى 5 آلاف فقط، بعد تقليص أعداد المستحقين وزيادة المبلغ.
جمعيات واستدانة
في المقابل، يرى الثلاثيني علي عبد الله أن العيدية عادة متوارثة من الصعب أن تختفي في مصر، كما لا يمكن الاستغناء عن هذا الطقس نهائياً، حيث تحول هو نفسه بمرور الوقت من متلق للعيدية إلى شخص حريص على منحها لأطفال العائلة، وزيارة الأقرباء بشكل متتابع كنوع من صلة الرحم بغض النظر على قيمة العيدية التي يدفعها.
"كنت أحرص على منح العيدية لشقيقتي وأطفالها، لكنها باتت مقتصرة على منحها وحدها مبلغاً مالياً، وبسبب الظروف الاقتصادية منعت العيدية مضطراً عن أطفالها، وخفضت المبلغ من 100 جنيه إلى 50 فقط". وشرح عبدالله أنه خصص ألفي جنيه هذا العيد لمواصلة هذه العادة، ولجأ إلى المشاركة في جمعية لتوفير حاجات رمضان والعيد، وحتى لا يقطع استمرار هذه العادة.
وأوضح أن "العيدية من العادات المتوارثة، وفي حال امتنعت عنها يمكن أن تقابل بعتاب"، مشيراً إلى أنه في الصغر كان يحصل على 25 قرشاً كعيدية ويشعر بسعادة غامرة، لكن الأمر تغير وتضاعفت المبالغ بصورة فائقة.
وأضاف "اضطررت العام الماضي إلى تخفيض العيدية إلى النصف، وإذا وجدت نفسي غير قادر على توفير مبالغ مخصصة لها سأضطر إلى قطع الزيارات، فالغلاء يدفعنا إلى مضاعفة المبالغ حتى تكون لها قيمة ولا تصبح عبارة عن عادة للحفاظ على الشكل والطقوس"، مستبعداً اختفاء هذا الطقس بشكل كامل، وموضحاً أن بعض الأشخاص يلجأون للاستدانة لتوفير مبلغ العيدية.