عيد السودان الدامي

منذ 1 سنة 178

عيد السودان هذا العام أحمر قانٍ ودامٍ، جراء الاقتتال الداخلي، وبوادر الحرب الأهلية التي انفجرت في العشر الأواخر من رمضان، كان حدثاً مفاجئاً للجميع حين اصطدم رفقاء السلاح، ولكنه كان نتيجة طبيعية لما كانت تمور به الأحداث والتراكمات والتركيبة العسكرية والسياسية في السودان ما بعد نظام البشير الإخواني الأصولي.
محبو نظرية «نهاية الصحوة» لا يجدون حرجاً في الاقتناع والترويج؛ لأن نظاماً أصولياً إخوانياً سيطر على البلاد والعباد لثلاثة عقود من الزمن قد اختفى فجأة، ولم تعد له ذيول لا في التعليم، ولا في المجتمع، ولا في القوات العسكرية، سواء أكانت جيشاً أم قوات دعم سريع أم قوات أمنية أخرى، وهذا عائق كبير لأي رؤية تنشد تماسكاً أو تحليلاً يتقصد فهماً وتوصيفاً.
تكتنز الذاكرة البشرية فتراتٍ سوداء قاتمة للحروب الأهلية الممتدة في الزمان والمكان، وهي كلها، بغض النظر عن زمانها ومكانها، شرٌ محضٌ، لا تجلب خيراً ولا تصنع مجداً، فانتصاراتها هزائم ومفاخرها مآسٍ، وقد كان للسودان تاريخ طويل مع نماذج من هذه الحروب الأهلية خصوصاً في جنوبه، وقد استمرت ما يقارب نصف قرنٍ، وصولاً للحظة انفصال الجنوب وإعلانه دولة مستقلة، وفي شرقه كذلك، في دارفور و«ميليشيا الجنجويد» التي تفرعت عنها قوات الدعم السريع، وفي لحظات تاريخية مضطربة متباعدة، وعلى الرغم من ذلك كله فإن بوادر هذه الحرب اليوم تلوح من الخرطوم العاصمة، ومن وسط البلاد وشمالها، لا من مناطق بعيدة أو نائية.
إحدى الوصفات السامة في الحروب الأهلية هي وصفة الاستثمار المنظّم في الفوضى، وخلقها وتوجيهها والاعتماد عليها كسلاح قادرٍ على خلط الأوراق وتغيير معادلات القوة، وهو ما تحسب الأطراف دائماً أنها قادرة على السيطرة عليه والتحكم في نتائجه، ودائماً ما كان هذا الحسبان خاطئاً والنتائج كارثية.
الهدنة التي تعلن بتردد في السودان، ويستمر انتهاكها ليست بغرض التفتيش عن مخارج سياسية في الغالب، بل هي فرصة لالتقاط الأنفاس، وترتيب الصفوف، وتعزيز المواقع، وجزء من عمليات الكر والفر بين الفرقاء العسكر المسلحين، ومنطق التاريخ وطبيعة البشر يشيران إلى أن القيادات العسكرية الواثقة بنفسها وتسليحها وآليات عملها لا تهادن القوات الأخرى من نفس البلد وذات الشعب إلا لتجبرها على الهزيمة المطلقة والخسارة الكاملة، ومنطق التاريخ وطبيعة البشر لا يمنحان مجالاً كبيراً للتفاؤل بالصلح الحقيقي المفضي إلى توافق تامٍ وسلام دائم.
ما يجري في السودان ليس خارجاً عن هذا السياق، وما لم تتدخل عوامل خارجية، إقليمية ودولية، لخلق طرفٍ داخلي ثالثٍ فاعلٍ ومؤثرٍ، ودعمه وتمكينه فإن ما يجري سيستمر إلى حينٍ، وبعد ما يقارب الأسبوع من اندلاع الأحداث فكل المؤشرات الإقليمية والدولية تشير إلى قناعة الدول بأن الحل ليس قريباً والمشكلة مستمرة، وترتيبات إجلاء الرعايا إقليمياً ودولياً التي تأخذ طابعاً متصاعداً وعملياً صارماً تشير بوضوح لهذه الحقيقة، وإن كانت مؤذية وغير محببة للنفوس.
العسكر دائماً أقدر على هزيمة المدنيين، ونزاعات العسكر المسلحة تلغي المدنيين؛ لأنها تبطل العملية السياسية فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وأصوات المعارك أسلحة وبنادق ومدافع وصواريخ لا مكان فيها لتداول الرأي ولا لأنصاف الحلول، ولذلك فمن السهولة بمكانٍ أن ترى الفرقاء المسلحين في السودان يتحدثون عن رفاق السلاح بالأمس القريب بوصفهم «الأعداء»، ويتأقلمون بسرعة فائقة مع هذا الوصف، والقوى السياسية تهمشت بحكم طبيعة الأوضاع الساخنة، وأصبحت خارج التأثير.
الناشطون والشباب الثائر الذي بشرت به أحداث وأدبيات ونفاق النخب إبان ما كان يعرف زوراً بالربيع العربي أصبحوا مثل زملائهم في الدول الأخرى على هامش الهامش، وألقي بهم بعيداً عن أي تأثيرٍ، وثبت أنهم على الرغم من صفاء النوايا، وطهر المبادئ، وجمال الأحلام إنما هم أدواتٌ بيد غيرهم يحركهم كيفما شاء ليضرب خصوماً أو يخلق فوضى، ولمن يريد معرفة التفاصيل أن يقارن بكل الدول التي طالتها فوضى ذلك الربيع الأسود، وما مصير رموز أولئك الشباب، وكيف انتهت بهم الحال.
منذ سنواتٍ ليست بالقصيرة كان السودان نهباً للتدخلات الإقليمية والدولية، وكان السودان يعرض قواعد عسكرية لدول مهمة إقليمياً ودولياً، وسيستمر الشأن بعد هذه الأزمة، والدول ليست جمعياتٍ خيرية، بل هي تسعى بقضها وقضيضها لبناء مصالحها في أي مكانٍ وبأي طريقة، والمجتمع الدولي تقوده دولٌ لها مصالحها وطموحاتها، وبالتالي فالتفكير بأن الجميع يفكر في مخارج آمنة للأزمة وتقديم مصلحة الدولة السودانية والشعب السوداني على كل شيء هو تفكير رغبوي غير مجدٍ وغير مفيدٍ إلا بقصد التطهر الذاتي والخلاص الروحي، وهو شأن لا علاقة له بتاتاً بالتحليل السياسي والقراءة الواقعية.
حلفاء نظام البشير لثلاثين عاماً من دولٍ إقليمية ودولية ومن أحزابٍ وجماعاتٍ لم يختفوا فجأة، ولم يقروا بالهزيمة الكاملة، وهم ينتظرون الفرصة ليستعيدوا شيئاً من نفوذهم ومصالحهم داخل السودان وبأيدي بعض السودانيين، وقد جاءتهم الفرصة على طبقٍ من ذهب وفي أفضل الصور الممكنة وهي الحرب الأهلية المسلحة والدامية.
وبعيداً عن بشاعة ما يجري فيمكن للأجيال الجديدة ولدارسي السياسة من الشباب السوداني والعربي مراقبة التنقلات والتقلبات التي ستجري في المواقف والتصريحات والسياسات في المرحلة المقبلة، إن في داخل السودان وبين فرقائه، وإن خارج السودان والمواقف الدولية تجاهه، وبناء المعرفة عبر التجربة بأن التفكير العقلاني والواقعي البارد أجدر بالظفر بالفهم والاستيعاب من مجرد العواطف الإنسانية الجياشة التي هي جزء من تركيبة البشر الطبيعية، ولكنها ليست كل الصورة.
بعيداً عن المقارنات بالتجارب التنموية الناجحة في المنطقة، وإدراكاً للصعوبات الكبرى التي تعرض لها السودان في تاريخه، إلا أن تجربة «النهضة الرواندية» قريبة في ظروفها ومعطياتها وتعقيداتها من التجربة السودانية مع التأكيد على نفي وهم التطابق، ورواندا انتقلت من الإبادة الجماعية والمجازر إلى دولة حديثة ذات نهضة تستحق الإشادة، ويمكن للسودان مستقبلاً الاستفادة منها ضمن سياقه وطبيعة شعبه وتركيبته السكانية والسياسية.
أخيراً، يمكن للنخب السودانية بناء أولويات جديدة للمجتمع تركز على أهمية التنمية والاستقرار بعيداً عن الشعارات، التي أضرت أكثر مما نفعت، وتاريخ السودان خير شاهد.