عودة إلى جدل الطبيعة البشرية

منذ 1 سنة 217

الغرض من هذه الكتابة هو استدراك ما فات تبيانه في مقال الأسبوع الماضي. وعلّته أن زملاء أعزاء وجدوا فكرة المقال غير مقنعة، كما شكك آخرون في أهمية هذا النوع من «السوالف العتيقة» كما قالوا.

والحق أن قصة الطبيعة البشرية، أي سؤال: هل الإنسان صالح بالطبع أم فاسد بالطبع، عتيقة جداً. فقد وردت في كتابات أفلاطون الذي عاش قبل 2300 عام. وظهرت في كتابات فقهاء وفلاسفة مسلمين في القرن الحادي عشر الميلادي. ثم تكررت في نقاشات الفلاسفة وعلماء السياسة في القرون الوسطى. لكنها لم تخسر أهميتها في العصور الحديثة. بل أن غاري ماديسون رأى أن أي نظرية في الفلسفة السياسية، هي بصورة مباشرة أو غير مباشرة، نظرية حول طبيعة الإنسان ذاته. وقد ذكرت في دراسة سابقة، أنني أميل لرؤية فيها تعديل على رأي البروفسور ماديسون، وخلاصتها أن أي نظرية في علم السياسة أو في الفقه أو القانون، يجب أن تقام على موقف مسبق من طبيعة الإنسان. بمعنى أن على المشرّع أن يقرر الأساس الذي يبني عليه: هل يتوجه بتشريعه لبشر طبيعتهم صالحة خيرة، أم العكس؟

بيان ذلك: حين يفكر المشرّع في مواد القانون الذي يريد وضعه، يضع نصب عينيه الغاية التي يستهدفها هذا القانون. فالمشرّع الذي يحمل رؤية متفائلة إزاء طبيعة البشر، سوف يصدر قانوناً ليناً، يستهدف في المقام الأول تمكين الناس من تحصيل حقوقهم، وحيازتها بيسر وسلام.

وسيحدث العكس حين يحمل المشرّع أو الفقيه رؤية متشائمة، أي حين يكون معتقداً بأن الناس أميل للفساد، فهو حينئذ سيجعل غاية القانون وغرضه الأساس، تضييق الثغرات التي ربما يستغلها الفاسدون والعابثون. وبالتالي سيأتي خشناً معقداً، لا يمكّن الناس من حقوقهم إلا بعد ألف تحقيق وتحقيق.

بعبارة أخرى، فإن النوع الأول يفترض أن الناس طيبون، وأنهم حين يدّعون حقاً، فهم في الغالب صادقون، وأن دور القانون هو مساعدتهم. أما الثاني فيفترض أن الناس فاسدون، وحين يدّعون حقاً فإنهم في الغالب يسعون للاستحواذ على حقوق غيرهم، أو أن الجشع يحملهم على أخذ ما يزيد على حقهم. ولذا؛ تجب الحيلولة دون وصولهم إلى الحق المزعوم قبل التحقيق والتدقيق.

أعلم أن كثيراً من الناس يميل إلى الرأي الثاني. وقد قرأت عشرات الأمثلة التي ضربها قراء وزملاء لتأكيد هذا الرأي. أما أنا فأميل للرأي الأول، ولدي دليل واحد فحسب، وهو موقفك أنت عزيزي القارئ. أدعوك للتوقف لحظة وسؤال نفسك سؤالين، وأنت تعرف جوابهما، وفي هذين الجوابين يكمن الدليل على ما زعمته.

السؤال الأول: لو عقدت مقارنة افتراضية، بين عدد الفاسدين الذين تعرفهم وعدد الصالحين الذين تعرفهم. هل ترى أن عدد الفاسدين سيكون أكبر أم العكس؟

السؤال الآخر: ألقِ نظرة على تاريخ البشرية خلال ألف عام، هل تراها تقدمت أم تأخرت... على صعيد القانون والتكنولوجيا وتوافر الغذاء والدواء ورعاية الأطفال وكبار السن والتواصل وانتشار العلم والمعرفة... إلخ. هل يمكن للفاسدين أن يصنعوا هذه التحولات العظيمة. إذا كان الجواب نعم، فينبغي أن تكون السجون مصدر العلم والاختراع، وليس الجامعات ومراكز البحث والمصانع والمختبرات. فهل هذا ما حدث فعلاً؟

بعد هذا دعنا نتحدث انطلاقاً من مصلحتنا كأشخاص عاديين: ما هو الأصلح لي ولك وما الذي نريده لأنفسنا: أن يعاملنا القانون كأشخاص صالحين يريدون العيش بسلام، أم كأشخاص فاسدين يبحثون عن ثغرة كي يفسدوا عالمهم؟

هل أمثّل أنا وأنت وعشرات الأشخاص الذين نعرفهم، نماذج عن ملايين الناس الذين يعيشون على هذا الكوكب، أم أن الله اصطفاك وبضعة ممن تعرفهم، دون بقية خلقه؟