عودة إلى «الليلة الإيرانية»

منذ 7 أشهر 95

لا بد من التوقف من جديد عند تلك الليلة الطويلة، ليلة الردّ الإيراني المباشر على الكيان الصهيوني، حيث حبس الشرق الأوسط والعالم أنفاسهما، في انتظار ما ستقود إليه مئات الطائرات المسيّرة والصواريخ البعيدة المدى، في أوّل هجوم إيراني من نوعه في التاريخ، ما يوجب النظر إليه بتمعّن وجلاء مضامينه وأبعاده، لما يمكن أن يتركه من انعكاسات على حاضر المنطقة ومستقبل دولها وشعوبها.

في ظلّ إسقاط الغالبية العظمى من هذه المسيّرات والصواريخ قبل وصولها إلى أهدافها، وبنتيجة الضرر المحدود تماماً الذي أحدثته في البنية العسكرية الإسرائيلية، وتجاوب تل أبيب مع رغبة واشنطن في التنسيق معها حول ردها المقبل على الهجوم، يبدو أن كل شيء عاد إلى ما كان عليه قبل «الليلة الإيرانية» في مسار المواجهة العسكرية الدائرة في الشرق الأوسط منذ أكثر من 6 أشهر.

لكن الحقيقة غير ذلك. وفي جو تضارب التفسيرات والتحليلات في فضاء التواصل الإلكتروني الفالت على غاربه، تنطوي «الليلة الإيرانية» على نتائج قريبة المدى واستراتيجية بارزة، إعلامية نفسية، وجغرافية سياسية، وعسكرية تكنولوجية، هذه أهمها:

هي المرة الأولى في تاريخ الصراع الإيراني - الإسرائيلي الطويل، المتشعب الفصول، الكثير الظلال، التي يردّ فيها النظام الإيراني رداً عسكرياً مباشراً على الكيان الصهيوني في فلسطين، من دون المرور بأذرعه المسلحة الفاعلة في المنطقة، وذلك بعد سلسلة طويلة، على مدى السنين، من الاغتيالات وأعمال التخريب التي مارستها القوات والأجهزة الإسرائيلية داخل إيران وخارجها. وقد شكّل تدمير القنصلية الإيرانية في دمشق على مَن فيها من قيادات، فصلها الأخير والنقطة التي طفحت معها الكأس.

جاء الرد الإيراني الواسع المدى، الذي شغل العالم طوال الليل، ليظهر في الميدان ذروة التحول العسكري النوعي الذي راكمته إيران خلال 45 عاماً، منذ وصول الإمام الخميني إلى سدة الحكم عام 1979، والذي تجلّى عبر السنين في تمدد «الثورة الإيرانية» عن طريق الفصائل المسلحة القوية والنافذة، المرتبطة عضوياً بـ«الحرس الثوري» في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين. وهو دليل ملموس آخر على التطوّر البارز في الصناعة الحربية الإيرانية، الساعية إلى التحوّل قوةً نووية، وقد تخطى ميدانها الشرق الأوسط ليصل إلى حرب أوكرانيا.

على الرغم من محدودية نتيجتها على الأرض، شكّلت الضربة الإيرانية، في مشهديتها الواسعة، وستشكّل معيناً دعائياً ونفسياً لا ينضب لجماهير المحور الإيراني في طهران وضاحية بيروت الجنوبية وأماكن كثيرة أخرى في المنطقة، وصلت إلى ذروتها الرمزية في صورة الصواريخ والمسيّرات العابرة سماء الليل فوق قبة المسجد الأقصى. وستشكّل «الليلة الإيرانية» «انتصاراً كبيراً» آخر في سلسلة الانتصارات المعهودة. لكن لهذه الصورة وجوهها الأخرى.

مع أن إعلام المحور الإيراني سارع إلى التأكيد بأن «الحرس الثوري» لم يستعمل بعد أسلحته الأكثر تطوّراً، فمن الواضح أن مستوى التكنولوجيا العسكرية الإيرانية، المدعومة من التقنيات الحربية الروسية والكورية الشمالية وغيرها، هو بصورة لافتة، دون المستوى الإسرائيلي والغربي. ليس فقط لأن الغالبية العظمى من مسيّرات وصواريخ «الليلة الإيرانية» تمّ إسقاطها ولم تبلغ أهدافها، بل أيضاً في ضوء الاستهدافات الإسرائيلية الكثيرة، وأحياناً الأميركية، البالغة الدقة، خصوصاً في سوريا ولبنان والعراق، طوال الأشهر الستة الماضية. وقد أظهرت الحرب المستمرة منذ «طوفان الأقصى»، أكثر من أي مرة سابقة في تاريخ حروب الشرق الأوسط، كم باتت التكنولوجيا البالغة التطور هي الأساس في الانتصار أو الهزيمة. ولعل الظاهرة الاستراتيجية الأكثر خطورة التي كشفها الصراع الحالي، بشكل ميداني ملموس، هي التالية: مَن يكسب السباق التكنولوجي الحربي المستقبلي، المعقّد والمتسارع، ستكون في يده ورقة رئيسية من أوراق الانتصار. لكنها ليست الوحيدة، إذ هناك عوامل مهمة أخرى، بشرية وديموغرافية واقتصادية وسياسية ومجتمعية وجغرافية وسيكولوجية وروحية، لها وزنها في الصراعات المصيرية.

وأحد العوامل الاستراتيجية الأساسية الذي أكدته «الليلة الإيرانية»، والذي يشكّل نقطة قوة ونقطة ضعف للكيان الصهيوني في آنٍ معاً، هو الارتباط العضوي بين هذا الكيان والغرب. هكذا كانت هي الحال على الدوام، في حرب السويس 1956، وفي حرب 1967، وفي حرب 1973، وفي كل وقت، والآن أيضاً. والمشاركة الفعّالة، الأميركية والبريطانية والفرنسية أيضاً، في صد «طوفان» المسيّرات والصواريخ الإيرانية، تندرج، مرة أخرى، في سياق هذا التحالف العميق. وسيعمل الإعلام المؤيد لإسرائيل في العالم على امتصاص الانعكاسات البالغة السلبية التي تركتها حرب غزة المهولة على الرأي العام الغربي، وفي كل مكان، ساعياً إلى التركيز من جديد على صورة الدولة العبرية المحاطة بالإعداء والمهددة في مصيرها.

والمؤسف أن مشهدية «الليلة الإيرانية» سترفع ربما من حدة التناقضات والصراعات المجتمعية والسياسية في الدول التي تضمّ أذرع «الحرس الثوري» الإيراني في المنطقة، بدلاً من أن تتوحّد شعوب هذه الدول في وجه الكيان الصهيوني. فكما نعلم، بعد انقضاء مائة عام على سقوط السلطنة العثمانية، لم تستطع دول المنطقة تحويل الجماعات التي تحكمها إلى أفراد- مواطنين. بل أكثر من ذلك، قويت الجماعات الطائفية والمذهبية والعشائرية والعرقية في مجمل هذه الكيانات، واشتدّ حذرها المتبادل وتضارب مشاعرها. ودخلت الثورة الإسلامية الإيرانية إلى هذه الدول من هذا الباب، باب الجماعات، فركّزت على الجماعة المذهبية المتعاطفة معها، وأنشأت في بيئاتها الحاضنة أذرعها المسلحة خارج أطر الدولة. وفي ظل إضعاف بنيان هذه الدول، الوطني والعسكري والسياسي والإداري والاقتصادي، بفعل ازدواجية الدولة والتنظيم المسلّح خارجها، باتت هناك الجماعات المسلحة «الغالبة» والجماعات الأخرى «المغلوبة»، وباتت دول، مثل لبنان وسوريا والعراق واليمن، في حال من التأزّم والتفكك والضياع المجتمعي يُرثى لها.

هكذا، كل صعود لنفوذ التنظيمات المسلحة خارج الدولة، تفسّره البيئة المذهبية الحاضنة بوصفه انتصاراً لها على الجماعات الأخرى، سرّاً أو علناً، وترى فيه الجماعات الأخرى، في السر أو العلن، تهديداً لها وإضعافاً لنفوذها في أوطانها.

ولا تفيد الشعارات والمقولات كثيراً في إخفاء هذه الحقيقة. ويصعب الخروج من هذه الديناميكية المحزنة، التي أدخلت وستدخل عديداً من دول المنطقة في حال من عدم الاستقرار الطويل الأمد، يصعب توقع وجهته النهائية.