لم يكن الإعلان التجاري في يوم ما ممثلاً لثقافة الناس البسطاء على رغم محاولته أن يبدو بذلك المظهر، ولم ينجح هذا العمل الإبداعي شكلاً، المعقد في جوهره، عبر عقود عدة، في إضافة قيمة كبيرة إلى رصيد الإنسان الجمالي والإبداعي.
ومع أنه لم يزعم هذا الدور ولم يخف غرضه الترويجي مدفوع الأجر، إلا أنه دائماً ما يتخفى بدهاء ضمن مفهوم الإعلام في بداية زمن العولمة ليغير جلده عشرات المرات، ويظهر علينا أخيراً من خلال عباءة بعض الفنون، لكنه خلال هذه المراحل جميعها لم يفلح الإعلان التجاري في إقناع كثيرين أن لديه قيمة معينة يستند إليها في مخاطبة الجماهير، بل كان دائم الاتكاء على سلطة المال.
مفارقات غريبة
أن تنتج شركة سيارات أغنية لفرقة موسيقية من دون مقابل، فذلك يعني أن هناك شيئاً غير متوقع الحدوث في مثل هذه المفارقة الغريبة، التي أصبحت منذ زمن العولمة عادية ومقبولة، لكن الأغرب هو أن تؤلف فرقة موسيقية مهمتها الارتقاء بذائقة الإنسان الفنية أغنية تروج من خلالها لسيارة ذات علامة تجارية معروفة. حدث هذا قبل عقود من الزمن في أوروبا، تحت ذريعة الحرية والشغف، ومنذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا استطاع جهابذة الإعلان التجاري تغيير مزاجنا الفني والموسيقي لتصبح الفنون وبعض وسائل الإعلام في خدمة الإعلان الترويجي وليس العكس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن الأخطر من ذلك أن الإعلان التجاري بكل أشكاله التي بدأت من الورقي والمكتوب، وتطورت بسرعة هائلة حتى أصبحت "مستقبل الموسيقى" حديثاً، أسهم في تغيير أنماط اجتماعية راسخة ومنها الأسرة بشكلها التقليدي، لأن الإعلان وفق كتاب وأخصائيين في هذا الشأن عبر الموسوعة العلمية الأوروبية "لا ينجح إلا حين يؤثر في السلوك التراثي للإنسان"، لذلك جاءت البداية الحقيقية له من خلال إطاحة رب الأسرة، وكانت بداية ظهور الإعلان من خلال الإعلام، وقبل زمن السوشيال ميديا وتفشي تطبيقات الذكاء الاصطناعي، إذ دخل المعلن إلى البيوت من خلال شاشة التلفاز، وأصبح هذا الجهاز بمثابة "رب الأسرة الجديد" الذي يوجه العائلة ويتحكم بشهوات وغرائز الكبار والصغار.
علاقة قرابة أكثر تعقيداً
من خلال الثورات الصناعية المتعاقبة، احتاج المتنافسون إلى ترويج منتجاتهم الكثيرة، فزاد الاستهلاك، لكن تماسك الأسرة شرقاً وغرباً أعاق عملية بيع المنتجات، لأن عائلة من عشرة أفراد وأكثر تعيش في منزل واحد كانت بحاجة إلى تلفاز واحد، هنا تدخل الإعلان بقوة لكن بشكل غير مباشر، إذ روج من خلال السينما والإعلام لفكرة استقلال الفرد، من منظور حداثي غير دقيق، فأصبحت كل أسرة بحاجة إلى عشرة منتجات وأكثر من الجهاز ذاته، وظهرت لاحقاً ثقافة الأجهزة الشخصية (كمبيوتر، هاتف محمول، لابتوب وغيرها) كما هي في وقتنا الراهن. لتظهر بالتزامن مع ذلك علاقة قرابة جديدة بين أفراد المجتمع وهي كونهم جميعاً أعضاء في عائلة المستهلكين.
إلغاء هوية المجتمع
في بداية المشوار لم يكن مهماً ذكر اسم المعلن أو توضيح هويته، فكان الإعلان يأتي في صيغة المجهول عبر علامة تجارية تجسد العلاقة بين الطرفين، فالمعلن غالباً هو صاحب شركة ثري، لا يحتاج حتى إلى ذكر اسمه الحقيقي، ويتعامل مع الجمهور الذي يستهدفه من وراء ستار ومن خلال شعار. مع ذلك ظهرت مع الوقت وتراكم التجارب السلبية للإعلانات الزائفة، مشكلة عدم الثقة بين الطرفين.
اكتشف المستهلكون أن الإعلان في جوهره ما هو إلا تجاهل صارخ ومتعمد للفرد، مما يستدعي التعامل معه بحذر شديد، إذ يتوجه إلى جمهور عريض لا يجمع بينهم من وجهة نظره، إلا كونهم أعضاء في عائلة المستهلك، ويتولى بعضهم مهمة إيصال فكرة الإعلان لبعض، وظلت مشكلة الإعلان متمثلة في كونه لا يستطيع أن يخاطب شخصاً بعينه أو فرداً باسمه الحقيقي، بل إنه لا يتوجه إلى جماعة معينة أو شعب معين، فالجميع مستهلكون لا أكثر.
استغلال الفن
شكل دخول الإعلان التجاري مرحلة استغلال بعض الفنون، مثل الفيديو الترويجي، خطوة كبيرة في مسيرة التأثير بتراث البشرية شرقاً وغرباً، إذ سطا الإعلان بشكل سافر على الفن والإعلام، وظهر كأداة فنية مستقلة، مع علم الجمهور أن هناك نوايا غير معلنة له، وأنه يستغل حالة الإرهاق الذهني لدى الجمهور، ليسلك قنوات نفسية معقدة يمرر من خلالها المنتج على رغم رداءته أحياناً. وأصبح الإعلان من خلال ذلك هو الوسيط الذي تقدم عبره بعض الفنون على شرف منتج تجاري، حتى ولو كانت قيمة المنتج تنافي تماماً قيمة الثقافة والفن، عداك عن تجاهل قيمة الموسيقى من حيث أثرها ودورها في الحياة.