عندما تلجأ الإدارات السياسية لاستخدام الدين!

منذ 1 سنة 195

عمدتُ في السنوات الماضية، وكلما استعان حزب سياسي في الدول الغربية، وأميركا على وجه الخصوص، بجهاتٍ دينية لزيادة عدد أصواته في الانتخابات، إلى الاستشهاد على ذلك بكتاب سكوت هيبارد: «السياسة الدينية والدول العلمانية: مصر والهند والولايات المتحدة الأميركية» (2010). ويذهب الباحث في الكتاب الذي صار شهيراً إلى أنه في الدول الثلاث الكبرى فإن الأحزاب والسلطات، ومنذ السبعينات من القرن الماضي، استنصرت بالجماعات الدينية الجديدة والصاعدة للحصول على الشعبية والتأثير في الانتخابات بحمل مطالبها الخاصة ذات الصبغة الدينية. ألسدير ماكنتاير الفيلسوف المعروف في كتابه «الأخلاق والنزاعات والحداثة» (2016) ذهب إلى عكس ذلك؛ فقد رأى أن ظاهرة «عودة الدين» لملء الفراغ الذي لم تستطع العلمانية ملْأه هي التي قادت لذلك. بمعنى أن الجماعات الدينية الجديدة هي التي اندفعت باتجاه التأثير في المجال العام، فصار هناك تبادل للمصالح، ما لبث أن تنامى للنهايات المعروفة.

أبرز الحكومات اليوم التي يحدث بين الجهات الدينية والسياسية فيها تبادلٌ للمصالح هي حكومة الكيان الصهيوني. وقد تنامى هذا التبادل خلال العقود الماضية حتى سيطر تماماً في الحكومة الحالية. صحيح أنه لا يزال هناك يمين صهيوني، ويمين ديني؛ لكن اليمين الديني صار هو الغالب. وبسبب ذلك يرى المعارضون أن تغيير القوانين في البرلمان الإسرائيلي ليس محاولة من نتنياهو لحماية نفسه وحسْب؛ بل المقصود والهدف الاستراتيجي تغيير هوية الدولة باتجاه الكيانية الدينية اليهودية. ولهذه الناحية يمكن أيضاً تتبع المساعي من أجل الوصول لذلك خلال أكثر من عقد، والاعتقاد الآن أن الأمر بلغ ذروة لا يجوز التراجع عنها، أياً تكن الاعتبارات الأميركية، فحتى الرئيس الأميركي بايدن ذكر أن حكومة إسرائيل فيها عناصر متطرفة لم تعرف الدولة العبرية لها مثيلاً من قبل!

كيف يُدارُ الدين؟ وكيف تتعامل معه الدول؟ في كل دينٍ مؤسسة أو مؤسسات تعليمية وإرشادية للخلاص، وأقوى مؤسسات الخلاص في الديانة الكاثوليكية هي مؤسسة مقدسة للشؤون الدينية التعبدية والطقوسية، لكنها لا تتدخل في الشأن السياسي، وإن كانت لديها إرشادات وتوجيهات عامة في الشأن الأخلاقي العام، وشؤون العائلة. وفي أيام يوحنا بولس الثاني، البابا الأسبق، تدخلت الكنيسة الكاثوليكية في ثمانينات القرن الماضي باسم الإيمان والحرية، ضد الاتحاد السوفياتي، فبدا كأنما تشارك أميركا في صراعها. لكن في التسعينات ومع إعلانات انتصار اقتصاد السوق، تراجعت الكنيسة إلى مواقعها الأخلاقية الأساسية، وما عادت متحمسة للنظام العالمي الجديد.

أما القسم الثاني من المسيحية، أي الكنائس البروتستانتية والإنجيلية المتعددة والمتكاثرة في الزمن الجديد؛ فلكل كنيسة صغرت أو كبرت مرجعيتها ومؤسستها الخلاصية. وقد بلغ من تعاظم حراكها أنه عندما يجري الحديث عن «عودة الدين»، فالمقصود الكنائس الخلاصية الجديدة التي ازدهرت في الولايات المتحدة، ثم نشطت خارجها في جميع أنحاء العالم، وللعديد منها تحالفات داخل الإدارة السياسية المحلية، وتأثير أحياناً في الشؤون الخارجية.

وظاهرة توالُد الفرق الدينية موجودة أيضاً في اليهودية العالمية. أما في إسرائيل فالمؤسسة الدينية (الأرثوذكسية) هي التي تحدد لدى الدولة مَن هو اليهودي. في حين تتكاثر كُنُس صغيرة أو متوسطة الحجم لها كهنتها ومرجعياتها، وما عاد يمكن الحديث عن محافظين وإصلاحيين وحسْب. ولديها يبرز الميل الكبير للتدخل في الشأن العام.

وفي الإسلام؛ فإنه في الإسلام السني هناك في العادة مرجعية رسمية تعيش في حضن الدولة، وترعى شؤون الجماعة التعبدية والطقسية، والإرشاديات الأخلاقية العامة والتعليمية. لكن التعامل مع توجهات الأفراد يبقى بيد السلطات العامة، وعلى كل حال فالمرجعيات الدينية السنية لا تملك طابعاً خلاصياً.

وحدث تطوّر ملحوظ لدى الجماعات الشيعية في الإسلام؛ فقد كان «مراجع التقليد» متعددين بحسب البلدان، وأحياناً عبر البلدان، ولا يزالون. لكن مع قيام الثورة الإسلامية في إيران، تصاعد الميل للمركزة، واختلط الشأن الديني بالقيادة السياسية الإيرانية، بحيث صارت إيران زعيمة للعالم الشيعي، ليس في السياسة فقط، بل في الدين أيضاً.

وفي الحديث عن الإسلام السني، حدثت تطورات بارزة، وظهر وتنامى ما صار يُعرف بالإسلام السياسي، وتكونت أحزاب سياسية/ دينية سعت للوصول للسلطة باسم الدين، باعتبار الإسلام هو الحل. ولهذه الحركات طابع عقائدي أَوصل أحياناً للتطرف والإرهاب.

لماذا الحديث عن الدين والسياسة الآن؟ بسبب ظهور تأثيراته الكبيرة في سياسات الدول الداخلية والخارجية، والبارز الآن النموذجان الإسرائيلي والإيراني، فضلاً عن تأثيرات ملحوظة في ميانمار والهند وبلدان أخرى.

إن سائر مفكري الدين وفلاسفته، لا يعتبرون «عودة الدين» ظاهرة سلبية، ويرون أنه يمكن أن تنطلق منها حركات سلامٍ وتعاوُنٍ أيضاً. فالقيم الكبرى في الرحمة والتراحم والعدالة والحوار والجوار وحقوق الإنسان هي، في الأصل، وقبل استبعادها أو علمنتها، قيم دينية. وقد قال المفكر الكاثوليكي هانس كينغ إنه لا سلام عالمياً إلا بالسلام بين الأديان، ولا سلام بين الأديان إلا بالالتقاء على أخلاقٍ عالمية.

بيد أن إشكاليات تأويليات الدين في الغرب العلماني والمسيحي، هي غير إشكاليات الدين والسياسة في المشرق؛ إذ سرعان ما تختلط في الشرق الدينيات بالقوميات، وتظهر تحديات للدول الوطنية التي تعارضها الدينيات المسيسة بأساليب مختلفة أو تخضع لها.

وهذا التحدي يدعونا للتفكير في التفرقة بين سياسات الدين التي ينبغي أن تظل ممارستها بأيدي الدول من أجل الأمن والاستقرار. وإدارة الدين في الشؤون التعبدية والطقسية والأخلاقية والتعليمية والإرشادية، وهي أمور تقوم بها المؤسسات الدينية، وتحتاج من أجل القيام الفعال بها للتأهل والتأهيل بما يتلاءم مع الأزمنة الجديدة وسياقاتها. وكما أُردد دائماً، فإن الحاجة ملحَّة اليوم لاستعادة السكينة في الدين، والانتصار لتجربة الدولة الوطنية المدنية، وتصحيح العلائق مع العالم.