عن الكمّي والنوعي وتحوّلات الزمان في حرب غزة

منذ 10 أشهر 156

عام 1860، إثر المجازر التي شهدها جبل لبنان ودمشق، وبموافقة الدول الخمس الكبرى، وصلت الحملة العسكرية الفرنسية إلى مناطق النزاع، بأمر من حكومة الإمبراطور نابليون الثالث، وبقيادة الجنرال بوفور دو هوتبول. قوة من 6 آلاف جندي كانت كافية لإخضاع الشرق. وقد سارعت السلطنة العثمانية إلى إيفاد وزير خارجيتها فؤاد باشا لمحاسبة مرتكبي المجازر وتعليق المشانق. وقد طلبت الإمبراطورة أوجيني من نابليون الثالث أن يوفد مع الحملة بعثة علمية برئاسة الفيلسوف إيبوليت تين، هدفت إلى مسح شامل لآثار جبل لبنان وشاطئه، نتج عنه كتاب إيركيولوجي بجزأين ضخمين، حمل عنوان «بعثة فينيقيا».

ويكاد ينسى المرء في مهبّ الأحداث المتسارعة أنه بعد تلك الحملة الفرنسية بزمن طويل كانت فرنسا وبريطانيا ما زالتا مسيطرتين على العالم عام 1938، عشية الحرب العالمية الثانية. كان الجيش الفرنسي أقوى جيش بري، والأسطول البريطاني سيّد البحار... كم أصبح هذا الواقع الحديث بعيداً نائياً، كأنه آتٍ من زمن آخر. ونتذكّر مرة أخرى ذلك المبدأ الأساس في علم الاجتماع بأن التحوّل الدائم هو الثابتة الوحيدة في المجتمعات، سواء أكان بطيئاً غير مرئي، أم متسارعاً مفاجئاً ثورياً.

وكي نكتفي بالتحولات الكبرى منذ عام 1938 (وليس أبعد من ذلك) إلى اليوم، نجد ما كان يتعذّر على الخيال تصوّره؛ 60 مليون قتيل ودماراً هائلاً وظهور السلاح النووي واستعماله، خلال 7 سنوات فقط من الحرب الكونية الثانية. زوال سيطرة الثنائية البريطانية - الفرنسية على العالم، لتحلّ محلّها الثنائية الأميركية - السوفياتية. إقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين. انحسار ما بقي من استعمار غربي، من الجزائر إلى فيتنام. الانهيار المفاجئ، أواسط الثمانينات، للاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية، ما صعُبَ تصديقه، وسقوط الآيديولوجيا الماركسية التي كانت مهيمنة على الأوساط الفكرية والحركات الثورية في أرجاء العالم. صعود الفكر الإسلامي الجهادي المتطرف وتنظيماته. التقدم المعرفي والتكنولوجي المدهش في كل المجالات وتطبيقاته المثيرة في العلوم الرقمية والجينية وغيرها، ما جعل من الكرة الأرضية «قرية كونية». البروز المتزايد لوضع دولي متعدد القطب، خصوصاً بين الغرب وروسيا والصين والهند وقوى إقليمية أخرى.

وبين 1860 و2023، نلحظ ما يأتي في الشرق الأوسط؛ إذا كانت فرقة عسكرية فرنسية من 6 آلاف جندي كافية لإخضاع الشرق، فقد حضرت اليوم منذ اندلاع حرب غزة أساطيل الولايات المتحدة وأوروبا وسائر الغرب الأكثر تطوراً، تواكبها منظومات الأقمار الحربية، وتأهبت قواعدها العسكرية في كل أنحاء المنطقة، لتقف وراء مئات آلاف الجنود الإسرائيليين المنخرطين في القتال على أرض فلسطين... إلى أين؟

وراء تحوّلات الزمن الحديث، ثمة تحوّل أساسي قلما يُشار إليه، هو التحوّل من الكمي إلى النوعي، الماثل الآن عميقاً في أزمة الشرق الأوسط. هذا التحوّل عينه عرفته الصين، ثم الهند، على مدى العقود الأخيرة، حيث انتقلتا من مستعمرتين سابقتين تحت التاج البريطاني إلى قوتين عظميين. فقد استطاعتا استخدام طاقتهما البشرية الهائلة (نحو 3 مليارات نسمة، أي ما يقارب نصف البشرية) للانتقال التدريجي من الكمي إلى النوعي. والأفق مفتوح أمامهما على مزيد من الحضور والقوة في كل المجالات. والغرب الذي يملك أحدث التقنيات وأكثرها تطوراً، لكنه يعاني من ضمور بشري متزايد، بات يواجه هذا التحوّل من الكمي إلى النوعي في مجتمعات تصاعدت قوتها الديموغرافية على نحو بالغ مقتحمة الوضع الدولي. والمعضلة نفسها التي تواجه الغرب تواجه روسيا أيضاً، غير القادرة على ضبط تراجعها الديموغرافي في عالم سريع التغيّر.

لا يمكننا النظر إلى يوم «طوفان الأقصى» إلا في كونه النقطة الخطيرة التي برز معها فجأة، وللمرة الأولى، التحوّل من الكمي إلى النوعي في فلسطين والشرق الأوسط. ويغلب لديَّ الاعتقاد أن الذين قرروه لم يدركوا تماماً مدى خطورته ومدى عمق ارتداداته. وهذا التحوّل الشرق أوسطي من الكمي إلى النوعي تمّ في موقعين متباعدين جغرافياً؛ الموقع الفلسطيني والموقع الإيراني، التقيا في «طوفان الأقصى»، من دون أن نعلم حقاً من قرّر ووقّت يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول).

جهة التحول الفلسطيني... أدى الاكتظاظ السكاني المتصاعد في غزة، وهو الأعلى في العالم، والحصار الإسرائيلي المحكم على القطاع منذ نحو 20 عاماً، على خلفية ظلم تاريخي لا يحتمل على شعب فلسطين، إلى توجه «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، بصورة أساسية، وبقبضة حديدية محكمة، نحو التطوير العسكري البحت، المجرد من هموم التطوير المجتمعي، والمستند إلى الوسائل المحلية والدعم الإيراني في التسليح والتدريب والتنظيم، والدعم المالي من قطر ومصادر أخرى، وإلى معرفة وثيقة بالواقع الإسرائيلي. ما أدى إلى تكوين روحية قتالية جهادية حاسمة وقوة حربية ضاربة، كانت مدينة الأنفاق التعبير الأمثل عنها.

وجهة التحوّل الإيراني... وهو الأكبر والأشمل والأوسع مدى بكثير، عمدت الجمهورية الإسلامية التي يصل عدد سكانها اليوم إلى 90 مليون نسمة، والتي تملك طاقات وموارد اقتصادية ضخمة، وموقعاً جغرافياً حساساً، إلى الرهان منذ عشرات السنين على استراتيجية التطوير العسكري الوحيد الجانب، الذي لا يأخذ في الحسبان وجوه التنمية الأخرى، ما يذكّر بالتجربة الكورية الشمالية. وقد سخّرت إيران لهذا التوجه الأحّادي مواردها كافة، لتمدّ استراتيجيتها إلى دول المنطقة، من اليمن إلى العراق إلى سوريا ولبنان وفلسطين، عبر التنظيمات العسكرية المتصلة عضوياً بها. أدّى هذا المجهود الكبير إلى تحوّل عسكري نوعي لدى إيران وأذرعها البالغة التسلّح، وإن نتج عنه قمع لا هوادة فيه وإفقار مجتمعي واسع في الداخل الإيراني، كما أسهم في تخريب الدول التي امتدت إليها اليد الإيرانية وإفقارها، عبر التناقض العميق بين مؤسسات الدولة والتنظيمات المسلحة خارجها.

لكن على مدى سنين طويلة، بقي كل شيء، في صورة ما، مضبوطاً. إيران تستغل التناقضات الأميركية والغربية الكثيرة، الداخلية والخارجية، وحضور روسيا والصين في المعترك الدولي. وأميركا وأوروبا وإسرائيل تتعامل مع إيران وأذرعها كقوى أمر واقع لا بد من حل المشكلات معها تباعاً، هنا وهناك، بالمفرّق. وإسرائيل ترى في «حماس» و«الجهاد» عامل تعطيل للسلطة الفلسطينية، وتلعب على هذا التناقض وتغذيه للهروب من حلّ الدولتين، وسوى ذلك من حسابات. لم تكن «الدولة العميقة» في الغرب وفي الكيان الصهيوني تجد في ذلك كله مشكلة كبرى، أو معضلة مصيرية تستحيل مواجهتها. وكانت هذه «الدولة العميقة» واثقة إلى أبعد حدّ من تفوقها التكنولوجي النوعي الذي يؤمنّ لها ديمومة سيطرتها إلى ما لا نهاية.

إلى أن هبّ «طوفان الأقصى» على حين غرة، فهزّ مرتكزات هذا التفوق في الدولة العبرية. وبرز على المستوى الحربي، للمرة الأولى، التحوّل من الكمي إلى النوعي في الشرق الأوسط، فحضرت الأساطيل سريعاً من كل مكان، وحشد الكيان الصهيوني مئات الآلاف من جنوده، وصبّ جام غضبه تدميراً لا رحمة فيه على غرة. وها هي المواجهات تتسع على مدى جغرافية الشرق أوسطية كلها، منذرة بكل المخاطر.

أخرجت «حماس» المارد من قمقمه، ولم يعد أحدٌ قادراً على ضبط الارتدادات والنتائج. من خان يونس إلى باب المندب، هل هي المواجهة الكبرى وحرب اللاعودة؟