عن التفاعل المتناقض مع الغرب وعن الفن والأدب

منذ 10 أشهر 184

الغرب دائماً وأبداً... في التصادم وفي التفاعل، وما بينهما. في حرب غزة الدائرة رحاها الآن، وفي حروب الشرق الأوسط كلها، وفي كل أمر في هذا الشرق، قبل الحروب وبعدها. فالعلاقة مع الغرب مسألة محورية كبرى في مسار الأزمنة الحديثة (من القرن السادس عشر إلى زمننا الراهن). ليس بين مجتمعات المنطقة العربية والغرب فحسب، بل بين الغرب وسائر مجتمعات العالم أيضاً. وقد ارتدت هذه العلاقة بعداً مصيرياً في الأزمنة الحديثة لم تكن تعرفه في المراحل التاريخية السابقة، القديمة منها والوسيطة، للسبب الجوهري التالي؛ النهضة الأوروبية التي شهدها الغرب في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، والتي أحدثت الانتقال، في هذا المكان من العالم حصراً، من القرون الوسطى إلى الحداثة. وكونه بات مهد الحداثة، اكتسب الغرب أسبقية تاريخية أمّنت له السيطرة على مقدرات العالم في القرون الأخيرة في مختلف المجالات، وإن أضحت سيطرته موضع تساؤل اليوم في عالم متعدد الأقطاب. وخلال القرن التاسع عشر، الذي ساد فيه المنحى التطوري، رأت الأنثروبولوجيا التطورية بمختلف توجهاتها أن ثمة مراحل محددة تمرّ بها المجتمعات البشرية، لا بد أن تفضي في مرحلتها الأخيرة إلى وصول مجتمعات العالم، وإن في أوقات متفاوتة، إلى النموذج الأوروبي، وهو الأكثر تقدّماً. لكن الأنثروبولوجيا الحديثة لم تعد تأخذ بهذا المنحى الأحادي، فهي تحترم جميع الثقافات وتقدّر خصوصياتها من دون مفاضلة تقييمية بينها، ولم يعد من مسار واحد للتحولات المجتمعية يفضي إلى أي نموذج – قدوة.

إن معظم المسائل التي طُرِحتْ في المشرق العربي في القرنين الماضيين، واليوم أيضاً، كانت على صلة وثيقة بموضوع العلاقة مع الغرب، يندرج ضمنها قدرٌ لا حصر له من الدراسات والمؤلفات. لكن خارج مسارات الحروب والصراعات والأزمات الكبرى، وخارج الموضوعات الفكرية والسياسية والاقتصادية والاستراتيجية، التي تكشف ما تكشفه وتخفي ما تخفيه، ويتداخل فيها ما هو موضوعي وما هو موجّه، ثمة مسائل أدبية وفنية وجمالية وروحية، وثمة مسارات فردية مميزة، تنكشف فيها جوانب غير معهودة وغير متوقعة من التفاعل مع الغرب، يجدر التوقف عندها والإضاءة عليها. وتتخطى هذه الإضاءة الأفراد المبدعين في حد ذاتهم، على أهميتهم، لتطول شخصيتهم الجماعية، وروحية مجتمعهم وشعبهم، في أبعادها الخفية.

سأتوقف في هذه المقاربة عند شخصيتين تعبّران عن التفاعل الغني والمتناقض مع الغرب، في آنٍ معاً، الذي أودّ تبيانه؛ جبران خليل جبران (1883 - 1931) الذي ينتمي إلى الأدب المهجري اللبناني، وصليبا الدويهي (1909 - 1994) الذي ينتمي إلى روّاد الرسم اللبناني. وستتضح تباعاً فرادة حالتهما، في سرّ تفاعلهما الطويل مع الغرب، وتمايزهما عنه، على مستوى الوعي واللاوعي، الفرديين والجماعيين، ما يبرر اختياري لهما.

يمكن القول إن جبران أمضى حياته كلها في الولايات المتحدة الأميركية، منذ أن انتقل مع عائلته، صبياً يافعاً، من بشري إلى بوسطن عام 1895، إلى وفاته في نيويورك عام 1931 عن 48 عاماً، باستثناء إقامتين عابرتين له، الأولى في بيروت، والثانية في باريس. كتب بالعربية، ثم انتقل نهائياً إلى الإنجليزية. وفضلاً عن مؤلفاته الكثيرة، خصوصاً «النبي»، التي جعلت منه الأديب الأكثر تأثيراً في العالم العربي، والكاتب المشرقي الأكثر انتشاراً وحضوراً في العالم، كان جبران رسّاماً مرموقاً، تنتمي لوحاته إلى الاتجاه الرمزي الذي ظهر في الغرب في القرن التاسع عشر. وغني عن التذكير الدور الكبير الذي لعبته لغة جبران ولغة أترابه في مدرسة الأدب اللبنانية، المقيمة والمهاجرة، في صوغ اللغة العربية الجديدة، التي باتت هي لغة الأدب والعلوم والترجمة والصحافة في العالم العربي قاطبة.

كذلك صليبا الدويهي، هو الوحيد بين روّاد فن الرسم اللبناني (من أهمهم داوود القرم وحبيب سرور وخليل الصليبي ومصطفى فرّوخ وقيصر الجميّل وعمر الأنسي ورشيد وهبي)، الذي قرر الانتقال إلى الغرب، حيث أمضى 44 عاماً من حياته، من عام 1950 إلى حين وفاته عام 1994، في نيويورك عن 84 عاماً. كان مستقراً في الولايات المتحدة، قبل تنقله في العقد الأخير من حياته بين لندن وباريس ونيويورك. وقد قصد قبل ذلك لبنان لينفّذ رسوماً جدارية ورسوماً زجاجية في الكنائس. كما أنه الوحيد بين الرواد الذي انتقل، على مدى حياته الفنية الطويلة والثرية، من البدايات الكلاسيكية إلى الانطباعية، إلى المرحلة الانتقالية التجريبية، وصولاً إلى الرسم التجريدي. وله حضوره المميز في لبنان والمشرق العربي والعالم.

التفاعل مع الغرب واضح تماماً في شخصيتي جبران وصليبا الدويهي ومسار حياتهما وأعمالهما. فهما يجسدان علاقة مميزة مع المجتمع الغربي، من حيث الإقامة الطويلة، أو المؤثرات. فقد تأثر جبران بالثقافة السائدة في بوسطن مطلع القرن العشرين، في توقها إلى الروحانيات في مواجهة الحضارة المادية، ذلك التوق الذي رافقه على الدوام. ورسمه مرتكز إلى المدرسة الرمزية الغربية، خصوصاً منحى ويليام بليك، فضلاً عن تأثره بنيتشه ورودين وغيرهما. كذلك الدويهي المتأثر في بداياته برسم النهضة الأوروبية، ثم لاحقاً بالمدرسة الانطباعية الفرنسية، وأخيراً بالتجريدية الأميركية. علماً أن ذلك لا يقلل في شيء من إبداعهما الذاتي الفريد في جميع أعمالهما، أدباً وفناً. وعلماً أن لديهما مؤثرات ومكوّنات مشرقية كثيرة أيضاً.

لكن أين وجه التناقض في تفاعلهما مع الغرب؟ لا ينتبه أحدٌ إلى الظاهرة التالية في أعمالهما. على الرغم من وجودهما على مدى زمني طويل في الغرب، وعلى الرغم من تأثرهما بمدارس ووجوه فكرية وفنية وأجواء غربية كثيرة، وعلى الرغم من قوة حضور الطبيعة والأمكنة في أعمالهما، لا يوجد في أدب جبران أو في رسمه، ولا في رسم صليبا الدويهي، أي مشهد غربي. أمرٌ يكاد لا يُصَدّق، إذ كيف يمكن لمبدع مثلهما أن يرى طوال عمره كل ما في الغرب من جماليات طبيعية، أو مشهديات معمارية، من دون أن يلج أي منها أعماله؟

كل المشاهد الواردة في أدب جبران وفي رسمه، وجميع المشاهد الواردة في رسم صليبا الدويهي، آتية من مكان واحد؛ الطبيعة اللبنانية، خصوصاً طبيعة جبل لبنان، وخصوصاً طبيعة وادي قاديشا، مهد طفولتهما. كأنهما حملا معهما، في داخلهما، مهد طفولتهما، على مدى رحلتهما الطويلة إلى الغرب، ولم يخرجا من هذا المهد أبداً، ولم ينظرا إلى سواه. كأنه في مكانٍ ما عميق في دخائلهما، ليس من طبيعة تستحق ولوج عالم الأدب وعالم الفن إلا الطبيعة اللبنانية. مع ما يجسده ذلك من تجذر، ومع ما يحمله من معانٍ وأبعاد مجتمعية ونفسية ورمزية، تتخطى شخصهما، لا متسع الآن لتناولها.