عمرهم مجرد رقم... هؤلاء مصريون أكملوا تعليمهم بعد الـ60

منذ 1 سنة 137

"العمر مجرد رقم" عبارة لطالما اعتدنا سماعها، لكن قليلين فقط هم من استطاعوا تحقيقها على أرض الواقع، ليكسروا بالفعل حاجز الزمن ويقهروا المستحيل ويثبتوا أن اليأس ليس له وجود في قاموسهم، ليحققوا أحلامهم وأهدافهم المنشودة في التعلم والحصول على شهادات ومؤهلات دراسية بسن متأخرة، تاركين خلف ظهورهم أي عبارات أو مشاعر تثير الإحباط.

قبل أيام، ضجت وسائل الإعلام ووكالات الأنباء العالمية ومنصات التواصل الاجتماعي، بواقعة مليونير صيني عمره 56 سنة، اسمه ليانغ شي، ذاع صيته وتحول إلى نجم، بعد تقدمه لامتحانات "غاوكاو" (الثانوية العامة)، ليجرب حظه للمرة الـ27، على رغم مما حققه من نجاح، إذ بدأ حياته المهنية بوظيفة متواضعة في مصنع، ثم أسس شركته الخاصة لمواد البناء التي تشهد ازدهاراً في حجم أعمالها.

لم يتملك اليأس من الرجل الخمسيني الذي جرب حظه 26 مرة على مدى العقود الأربعة الماضية، لكن في كل مرة لم تكن الدرجة التي يحصل عليها كافية لتفتح أمامه أبواب الجامعة التي يريد أن يلتحق بها، إذ تقدم للامتحان للمرة الأولى في 1988، وحينها لم يكن يتجاوز الـ16 من عمره وواظب على الترشح مجدداً لمدة 10 أعوام تقريباً لتحسين درجته إلى أن صرف النظر عن ذلك في 1992، وفي ذلك الوقت كانت السلطات تحصر التقدم لهذه الامتحانات في تلاميذ المدارس الثانوية أو أولئك الذين تقل أعمارهم عن 25 سنة، وعندما ألغي هذا السقف عام 2001 شعر بأن فرصة جديدة لاحت له.

ليانغ شي الذي نشرت قصته وسائل الإعلام، مثله نماذج مصرية لا أحد يعلم عنها شيئاً، تواصلت معهم "اندبندنت عربية" لمعرفة الدوافع وراء رغبتهم في التعلم ونيل شهادات دراسية في سن متقدمة وأسباب إصرارهم على الشهادة الدراسية على رغم نجاحهم في الحياة العملية والاجتماعية، وما الذي تحققه الشهادة الدراسية لهم في هذا العمر؟

وطبقاً للإحصاء الرسمي الصادر من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بمصر (جهة حكومية) في سبتمبر (أيلول) من العام الماضي، بلغ عدد المسنين 6.9 مليون مسن بنسبة 6.6 في المئة من إجمالي السكان عام 2022، وبلغت نسبــة الأميـة بين المسنين 54.9 في المئة عـام 2021 (40.4 في المئة من إجمالي ذكور المسنين، 69.9 في المئة من إجمالي إنـاث المسنين)، بينما كانت النسبة إلى الحاصلين على مـؤهل جامعي فـأعلى بين المسنين 10.4 في المئة عـام 2021 (14.4 في المئة من إجمالي ذكور المسنين، 6.3 في المئة من إجمالي إناث المسنين).

العمر مجرد رقم

إلى ذلك، يقول فتحي غانم محمد (82 سنة)، لديه ابنان متزوجان في الـ40 من عمرهما، ويقيم في منطقة مصر الجديدة (شرقي العاصمة المصرية)، إن أسرته كانت بمثابة الحافز الأكبر له في استكمال رحلة تعليمه وتشجيعه على مواصلة الدراسة على رغم سنه المتقدمة، مستدركاً، "السن مجرد رقم في البطاقة وقلبي متعلق بالعلم، ولا أحب أن أضيع وقتي إلا في شيء مفيد وقاعدتي في الحياةـ أن العلم نور والجهل ظلام".

يضيف "غانم" لـ"اندبندنت عربية" أنه تخرج في كلية التجارة بجامعة عين شمس عام 1965، وبعد التخرج أكمل دراسة دبلوم الدراسات العليا في كلية التجارة جامعة القاهرة، ثم حصل على دبلوم المحاسبة والمراجعة، والتحق بكلية التجارة جامعة بنها لدراسة تمهيدي ماجستير.

يكمل، "تزامناً مع الدراسة سنحت لي فرصة الحصول على منحة من شركة كوداك الأميركية، وكان من بين الشروط اختيار أشخاص أصحاب مؤهلات عليا بجانب بعض السمات الشخصية، ونجحت في اجتياز جميع الشروط المطلوبة، وسافرت لتعلم جميع تفاصيل تكنولوجيا الميكروفيلم، وقضيت خلال تلك الفترة سنوات عدة خارج مصر تنقلت خلالها بين مختلف البلدان، حيث مكثت في ليبيا خمس سنوات، وفي السعودية خمس سنوات، وأميركا ثلاثة أشهر، وتنقلت بين بلدان أوروبية عدة منها ألمانيا وإيطاليا وفنلندا، وكانت رحلة السفر للخارج أحد العوائق أمام استكمال مرحلة الدراسات العليا".

وفقاً لغانم، فإن التنقل بين بلدان عدة بالخارج لم يفقده الشغف بالعلم والدراسة الذي ظل ينمو بداخله يوماً بعد آخر، فبعد العودة إلى مصر وجد أن لديه الرغبة في استكمال الدراسة، وبالفعل حصل على درجة الماجستير في الإدارة والمالية من الأكاديمية العربية للعلوم المالية والمصرفية التابعة لجامعة الدول العربية، وبعدها أكمل الدراسة لنيل شهادة الدكتوراه في كلية التجارة جامعة حلوان، وحصل عليها في مارس (آذار) 2022، عن عمر 81 سنة.

يقول الرجل المسن، "علامات الدهشة كانت تظهر على وجوه من حولي حين أقول لهم إنني سأواصل التعلم وإعداد رسالة دكتوراه ثانية لأنني أرى أن طريق العلم خير والعلم نور، إلا أن كثيرين كانوا ينصحوني بنشر أبحاث متخصصة في مجلات علمية، وأعكف حالياً على الانتهاء من تأليف كتاب في المحاسبة لفئات معينة وإتاحته قريباً للنشر العلمي".

مزيج بين الأمل والألم

لم تكن تجربة غانم متفردة بذاتها، ففي قرية سندوب بمحافظة الدقهلية (شمال القاهرة)، عاشت آمال إسماعيل متولي عبده (80 سنة) تجربة ممزوجة بين الأمل والألم، بعد أن اختارت التمسك بحلمها في استكمال مشوارها التعليمي على رغم إصابتها بمرض السرطان مرتين، لتحقق ما تصبو إليه في النهاية.

في حديثها لـ"اندبندنت عربية"، تقول آمال التي لديها أربعة أبناء و10 أحفاد، إنها لم تستكمل تعليمها وهي في سن الـ12 عاماً، بسبب رفض زوجها استمرارها في التعليم ورغبته أن تكون ربة منزل، "كان في قلبي غصة وحسرة بسبب عدم استمراري في التعليم ووافقت على هذا القرار المصيري على رغم عني بسبب حبي له وضغط أسرتي".

استغلت المسنة، سفر زوجها للعمل في ليبيا، وقررت العدول عن قرارها لتحقيق حلمها، حيث قررت الذهاب إلى وزارة التربية والتعليم طالبة استكمال الشهادة الإعدادية، وبعد التحاقها استطاعت أن تنجح في تلك المرحلة، وحين عاد زوجها واجهته بالحقيقة ففرح لها، لكن سرعان ما تبخر الحلم بطلبه سفرها معه لمرافقته في رحلة العمل بليبيا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تقول، "سافرت للخارج في فترة الثمانينيات ولم ينقطع الشغف لحظة عن الرغبة في العودة للتعليم ولم أترك الورقة والقلم من يدي وكنت أواظب على القراءة باستمرار وحرصت على تعليم أبنائي لبلوغهم أرقى المناصب".

عاد الأمل من جديد لآمال بعد وفاة زوجها، وحرص ابنتها على تشجيعها للعودة لاستكمال دراستها مرة أخرى وكانت تبلغ حينها الـ68 سنة، وقررت الذهاب إلى وزارة التعليم لمعرفة مدى إمكانية قبولها، قائلة "تعرضت لبعض عبارات السخرية والتنمر من بعض الموظفين وكان أكثر ما يضحكني حينما أجد نظرات الدهشة على المحيطين بي حينما يعرفون أنني طالبة في هذا العمر، لكنني استطعت بفضل عزيمتي وإصراري على الالتحاق بالشعبة الأدبي في الثانوية العامة والنجاح فيها بمجموع 83 في المئة".

8cf601e6-c124-49f3-a5dc-7159cf041f81.jpg

لم تكتف آمال بمرحلة الثانوية العامة، وأصرت على الالتحاق بالجامعة، فانضمت إلى كلية الآداب جامعة المنصورة وهي في عمر الـ71، وبعد الانتهاء من الدراسة الجامعية وحصولها على تقديرات مرتفعة، واصلت تعليمها للحصول على شهادة الماجستير لتحصل عليه بتقدير امتياز، قائلة "بدأت التجهيز لمرحلة الدكتوراه وما فعلته درس لكل يائس ومحبط، فعلى رغم إصابتي بالسرطان فإن عزيمتي تغلبت على المرض واستطاعت أن تقهره حتى حققت حلمي".

حلم طال انتظاره

من قرية سندوب بمحافظة الدقهلية (شمال القاهرة) لحي محرم بك بمحافظة الإسكندرية (شمال مصر)، حيث يقيم أحمد محمود مدني (63 سنة)، الذي قرر أن يستكمل تعليمه على رغم كبر سنه، ليحقق حلماً طال انتظاره بالالتحاق بكلية الحقوق.

كان مدني الذي يعول ابنين أحدهما يدرس في كلية الحقوق والآخر بالآداب، لديه شغف كبير بالعلم والدراسة، إذ يقول "حصلت على مؤهل دبلوم صناعي قسم محركات بحرية عام 1979 ولم أكمل تعليمي بعد هذه المرحلة".

يضيف أنه قرر أن يلتحق بالثانوية العامة بعد أن شجعته نجلته وطالبته بضرورة استكمال تعليمه، والتحق معها في العام نفسه واشتركا في المذاكرة وتلقي الدروس خلال المرحلة الثانوية لكن بالشعبة الأدبية، قائلاً "نجحت في الثانوية العامة عام 2019 على رغم بعض الأزمات الصحية التي مررت بها، وقررت الالتحاق بالمعهد الفني التجاري قسم قانون ثم بعد الانتهاء من ذلك حققت حلمي بالالتحاق بكلية الحقوق للعمل كمحام متخصص في القضايا الدولية".

thumbnail_4895cf9a-860b-421d-8c25-29c47e2318a2.jpg

يكمل، "حصلت على تقدير جيد جداً في السنة الدراسية الأولى من كلية الحقوق ثم تلقيت تكريماً من رئيس الجامعة، وكنت أشعر بتشجيع كل من حولي من الطلاب على رغم أنني أكبرهم سناً وكانوا يتلقون نصائحي في شأن المحاضرات باحترام وتقدير"، مضيفاً أنه لم يشعر بأي نظرات تنمر أو استنكار أو استغراب من المحيطين حوله.

وفقاً لمدني، كان أكثر ما يسعده هو تبادل الخبرات بينه وزملائه في الكلية، "كنت أمنحهم خبراتي بحكم كبر سني وأستفيد من فكرهم المتطور في التكنولوجيا".

إصرار وعزيمة

نموذج آخر من الإصرار والعزيمة، جسده جوده محمد الشناوي حسين (68 سنة)، ويعمل بمهنة الصيد في محافظة السويس، إذ قرر أن يتعلم على رغم كبر سنه لمحو أميته. يقول "لم أكن أعرف القراءة أو الكتابة، ونصحني بعض الأصدقاء بزيارة إحدى مدارس محو الأمية من أجل التعلم، وقررت حينها خوض التجربة".

يضيف جوده الذي يعول أربعة أبناء (ولدين وبنتين)، أنه بدأ دراسته في فصول محو الأمية في سبتمبر (أيلول) من العام الماضي، قائلاً "نظرات من حولي كانت لا تخلو من الدهشة والاستغراب نظراً إلى كبر سني، لكني قررت تحقيق حلمي أياً كانت التحديات والظروف لإثبات أحقيتي بالحصول على شهادة دراسية".

في مايو (أيار) الماضي، قال الدكتور محمد يحيى ناصف، رئيس الهيئة العامة لتعليم الكبار، إن مصر ستعلن أنها خالية من الأمية عام 2030، مشيراً إلى أن نسبة الأمية طبقاً لآخر إحصائية رسمية بلغت 15 مليوناً و900 ألف بنسبة 23 في المئة، وكانت هذه النسبة 29 في المئة عام 2011.

لم يخف جودة خلال حديثه لـ" اندبندنت عربية" تخوفه من أن يقع يوماً فريسة لمن يستغل جهله بالقراءة والكتابة، "كل ما أخشاه أن يستغل أحد عدم علمي بالقراءة والكتابة وأوقع على إيصالات أمانة أو أوراق لا أعلم ما بداخلها"، وهو ما شجعه للالتحاق بفصول محو الأمية.

اعتاد الرجل المسن الذهاب إلى فصول محو الأمية مرتين أسبوعياً، وسط تشجيع من أسرته التي حفزته على تلقي العلم من أجل الدراية بالقراءة والكتابة، قائلاً "نجحت في اجتياز الامتحان وحصلت على شهادة محو الأمية ومستمر في الدراسة إلى النهاية".