تفرش نوال سويدان ملابس ابنها بهدوء وترتب سريره كما اعتادت أن تفعل عندما كان لا يزال طالباً جامعياً. وحتى اليوم، لا تزال سويدان، الوالدة التي كُسر وحرق قلبها، تقوم بالأمر نفسه، رغم مرور عشرة سنوات على اختفاء ابنها بعدما اختطافه من قبل مسلحي إحدى الميليشيات العراقية.
في أواخر حزيران/يونيو من العام 2014 احتفى الابن صفاء ذات فجر، قبل أيام من بداية شهر رمضان. في تلك الليلة ظهر مسلحون ملثمون أمام البيت وسألوا عن صفاء الذي كان في مطلع عشريناته، ويتابع دراسته في مجال الحقوق.
تقول الأم لوكالة أسوشييتد برس الأمريكية إن المسلحين قالوا لهم وقتذاك إنهم يريدون "فقط طرح بعض الأسئلة عليه".
بالطبع سويدان ليست الأم الوحيدة التي حرقت عشرون عاماً من الحرب في العراق قلبها وسرقت منها أغلى ما تملكه. فمنذ الاجتياح الأمريكي عام 2003 الذي أعلنه جورج دبليو بوش، وما تلاه من نزاعات أهلية وفوضى، فُقد الآلاف من العراقيين، لا بل ربما عشرات الآلاف.
حالتهم حال اللبنانيين في الحرب الأهلية [1975-1990] أو السوريين منذ 2011 أو الليبيين، في منطقة عربية شاركت ووتتشارك منذ عقود أفظع المصائر مقارنة بمناطق أخرى من العالم.
وتشعر الأسر العراقية أنها منسية في بحثها عن ابنائها المستمر منذ عقدين أحياناً، والذي يكاد يكون أبدياً لبعض أفرادها. وفيما تحاول الحكومات العراقية طيّ صفحة الماضي الدموية والمضطربة، لم تعمد الحكومة الحالية إلى إطلاق أي مبادرة للبحث عن المفقودين.
وتقول مجموعات حقوقية إن السبب في ذلك التلكؤ يعود بالدرجة الأولى إلى تورّط بعض رجال الطبقة السياسية أنفسهم في علاقات مع الميليشات والمسلحين المتحمين بالخطف والقتل.
وشهدت بلدة المحمودية حيث تعيش نوال سويدان مواجهات مسلحة طائفية خلال العقدين الماضيين بسبب قربها من الطريق الأساسي الذي يؤدي إلى كربلاء من جهة، وبسبب التوزع الطائفي فيها بين مسلمين سنة وشيعة. ويقول سكان المحمودية إنّ الطرفين تعايشا بسلام إلى حين سقوط نظام صدام حسين وبدء الغزو الأمريكي.
وفُقد صفاء عام 2014 ضمن موجة بشعة من تبادل الخطف والقتل الطائفيين. ورغم أنه ينتمي إلى أسرة سنيّة، إلا أن والدته، نوال، ترفض اتهام طرف معيّن باختطاف ابنها. أحد أقربائها فقط يقول إنه يعتقد أن مسلحين شيعة اختطفوه.
لقد أمضت الأسرة سنوات وهي تبحث في السجون العراقية في مدنٍ مختلفة علّها تجد ابنها المفقود وقابلت سياسيين ومسؤولين وكلّ من يمكنه تقديم إجابة إليها، لو كانت صغيرة. وتقول سويدان باكية "بحثت في كل مكان.. لم يكن هناك. ومنذ ذلك الحين سلّمت أمري لله".
خطف عابر للطوائف
جارة سويدان المباشر، نضال علي، امرأة من الطائفة الشيعية، وهي تواجه نفس المصير، في إثبات على أن الحزن والأسى والظلم والقهر لا تعرف الطوائف. تقول علي حاملة صورة ابنها "دخلوا علينا وسألوا عن عمّار في الفترة نفسها تقريباً. أخذوه وقالوا لنا إنهم سيعودون بعد خمس دقائق".
تعتقد نضال أن خاطفي ابنها عمار سنة متطرفون وتقول إنهم أخذوا ستة أشخاص من الحي وتضيف بحسرة: "المخطوفون كانوا كلّهم شباب وفقراء".
نضال أيضاً بحثت في السجون عن ابنها ودفعت المال لأشخاص زعموا أن بإمكان تحصيل معلومات عنه وعن وضعه. كان عمار في سنّ الأربعين عندما فُقد، وترك وراء زوجته و5 أطفال.
عشرات آلاف المفقودين
تقول الهيئة الدولية للصليب الأحمر إنها تلقت بلاغات بفقدان 43.293 شخصاً في العراق منذ 2003. وحتى الآن تظل هناك 26.700 قضية غير محلولة من تلك القضايا. وهذا الرقم أعلى بكثير من تقديرات الحكومة العراقية [16.000 مفقود].
وحتى اليوم، لا تزال الهيئة تتلقى طلبات تخص مفقودين جدد. ففي 2022 تلقت نحو 1.500 طلب من أسر تبلغ عن أفراد مفقودين. وهذه الأعداد، بحسب مسؤولة في الهيئة، قد تكون فقط "رأس جبل الجليد" إذ أن أعداد المفقودين الحقيقية أكبر من ذلك بكثير.