لم يُمط اللثام أبداً بشكل رسمي عن هوية فنان الغرافيتي الغامض والمتواري بانكسي. وفي المقابل خصصت عدة مقالات للبحث في هوية هذا الشخص الحقيقية خلال فترة العقود الثلاثة التي مضت منذ انطلاقه في رسم جداريات ساخرة على جدران المدن- منها فئران تحمل حقائب وتطير مستعينة بمظلة شراعية أو دمى الدبب التي ترمي قنابل مولوتوف على شرطة مكافحة الشغب.
وقد عاد إلى الواجهة تسجيل صوتي نادر يبدو أن بانكسي نفسه يؤكد هويته فيه- والفضل يعود بالكامل إلى صحيفة "اندبندنت".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابلة التي بثّت للمرة الأولى عبر أثير إذاعة "بي بي سي" الرابعة منذ عشرين سنة تقريباً، وأُخرجت من الأرشيف لإذاعتها ضمن حلقة إضافية من مدونة قصة بانكسي الصوتية، يواجه مقدّم برنامج بي أم PM نايجل رينش فنان الشارع الشهير عالمياً ويسأله "هل تحبّ أن استخدم اسمك؟ ما أعنيه أن صحيفة "اندبندنت" قد…"
فيجيبه بانكسي "نعم".
ويتابع رينش "أهو روبرت بانكس؟"
فيردّ بانكسي بقوله "روبي".
وهكذا، كُشفت هوية المخرّب الشهير من بريستول- قبل أن تغيب فوراً عن الأذهان.
لست غافلاً عن السخرية في أن يكون اسم فنان يُعرف بأنه يتسبب بأضرار جنائية "روب بانكس" (نهب المصارف بالعربية)، لكن لكلّ من اسمه نصيب.
وفي الواقع، أنا أحد كبار المعجبين ببانكسي. فأنا شديد الإعجاب بأي شخص ينجح في دفع الشعب البريطاني إلى التناقش في الفن. ومن نواحٍ عدة، كل ما نطلق عليه اسم "بانكسي" هو بحدّ ذاته مثير للنقاش- من التكهنات الخافتة حول هويته، إلى الجدال الذي يدور على منصات التواصل الاجتماعي حول آخر أعماله، والاستياء بشأن الحدود المخفية بين التعبير الفني وإلحاق الضرر بالممتلكات.
كما أن الهالة المحيطة به تكاد تضعه في مصاف الأسطورة، وهذا ما يدفع للتساؤل: هل الكشف عن هويته فكرة جيدة؟ هل نخرّب الأسطورة بمشاركة اسمه؟ هل أنا متواطئ في نوع خاص بي من التخريب عن طريق تسميته في المقال؟
لطالما كانت هوية بانكسي متاحة أمام العموم، على شرط أن تعرف أين تبحث عنها. في عام 2008، قضت صحيفة وطنية عاماً كاملاً تحقق في هويته، وتلاحقه في مدينته بريستول- وخارج البلاد في جامايكا- في محاولة لرسم معالم حياته كأحد أفراد الطبقة الوسطى... وفي الأخير، لم تعلق أي من هذه التفاصيل سوى في ذهن قلة قليلة من بيننا. وأولها اسمه.
تحوّلت إماطة اللثام عن فنانين يفضلون الغموض نوعاً من الرياضة في عصر الإنترنت. في عام 2017، ذكر مقال لمجلة "نيويورك" اسم الكوميدي صاحب حساب @dril على منصة "إكس/تويتر"، الذي يخفي هويته. إن كنت من متابعي دريل- الذي يواصل نشر آرائه الغريبة بالقوة نفسها كالوقت الذي كان فيه الموقع جيداً- قد تفاجئك هذه الأخبار. فقد فاجأتني أنا أيضاً. وتبين أن اسمه معروف- لكن هناك تواطؤاً بين غالبية معجبيه لاعتبار أن ذلك لم يحدث.
وفعلياً، لمَ لا؟ مثل بانكسي، يستمد دريل جزءاً كبيراً من سحره الغامض من الهوية التي بناها في الفضاء الرقمي. لا يعنيني شخص اسمه "بول"، بل ما يهمّني هو الرجل المنفرد الغريب المنعزل عن العالم الذي يضع صورة سيئة النوعية لجاك نيكولسون ويشتري شموعاً كثيرة جداً ولا يمكنه ارتياد حديقة الحيوان بعد الآن.
لن يفاجئني وجود نوع مماثل من فقدان الذاكرة الجماعي المتفق عليه هنا. فأسطورة بانكسي لافتة أكثر بكثير عندما يكون صاحبها ذاك الفنان اللص المجهول بحضوره الخاطف الذي يترك بصمته تحت جنح الظلام ويختفي مع طلوع الشمس. يروق للناس أن يقولوا إن بقاء بانكسي مجهول الهوية يسمح له بأن يترك للفن مساحة التعبير عن نفسه وأن الكشف عن هويته كفيل بتقويض هذه النقطة- لكن الحقيقة هي أن مسألة هويته تشكلّ جزءاً من العمل الفني المتكامل.
فأي عمل لـ "بانكسي" ليس مجرّد طلاء على الجدار- بل هو أداء متكامل، يتداخل فيه عنصر اكتشاف العمل، والتغطية الإعلامية له، والتكهنات بشأن سبب اختيار موقع محدّد، وكيف نجح في وضع العمل في ذلك المكان، وكل التفاصيل الأخرى المحيطة بالرسم نفسه. في عام 2018، حين أُتلفت إحدى لوحاته ذاتياً في مزاد علني، وتمزّقت أمام أنظار المزايدين المصدومين في دار سوذبيز للمزادات العلنية، لم يأبه الناس بالأسماء- كانوا غارقين في الاستعراض لدرجة لم تترك لهم مجالاً للغوص في تفصيل عادي لهوية الشخص الذي يقف وراءه. كان مجرد يوم جديد في عالم بانكسي.
كما أن أسطورة بانكسي باتت تتخطى حدود الفرد بعينه. وصلنا إلى مرحلة تنمّ فيها عبارة "بانكسي" عن هوية علامة تجارية، وأسلوب فني وطريقة تفكير بالفن ونهج خاص للحراك السياسي وألف معنى آخر لا يمكن أن يُنسب في الواقع إلى أفعال أي شخص بعينه. وليس "روبي بانكس" سوى جانب آخر من تلك الأسطورة- ولا يشكّل هوية "بانكسي" أكثر مما يشكّل رجل أعمال من منتصف القرن التاسع عشر اسمه لويس فيتون، إمبراطورية الأزياء.
لا يتعدّى الكشف عن هوية بانكسي الكشف عن التركيبة الكيميائية للطلاء في لوحة لبيكاسو، أو ماركة المبولة التي صنع منها دوشامب عمله الفني، النافورة. إنها إشارة صغيرة ضمن أداء فني استعراضي مستمر، يتواصل منذ عقود ونأمل في أن يكمل الطريق لعدة عقود أخرى.
علاوة على ذلك... روب بانكس؟ أحقاً؟ هل يمكننا أن نتأكد فعلاً من أنه لم يخدعنا مجدداً؟