ترتئي أحياناً أن تتنكر للواقع، لا تشاهد النشرات الإخبارية، وتغادر منصات التواصل الاجتماعي، وتطفئ أي إشعارات بالمستجدات في هاتفك المحمول، علك تنأى بنفسك عن "نواقيس الخطر" [تنبيهات الأخبار العاجلة] والأجواء المشحونة بالضغوط والتهديدات حول العالم. ولكنك حينما تقصد مكان العمل مثلاً، لا تجد زملاءك يتحدثون عن الطقس الجميل والسماء الصافية وزقزقة العصافير، ولا عن آخر صيحات الموضة... بل عن جريمة قتل وقعت بالأمس، أو غرق مهاجرين، أو حراك مطلبي، أو حتى تفجير إرهابي. للأسف، كل البيئات التي نجد أنفسنا فيها اليوم مسمومة بأخبار مزعجة تصل إلينا من كل حدب وصوب.
ولكن يبدو أن نقل أخبار حوادث على هامش الكوارث مثل فعل الخير والإحسان ومساعدة الآخرين قد تخفف عن كاهلنا عبء الآثار السلبية التي لا تنفك تقض مضاجعنا.
في تقرير نشرته أخيراً، تعود صحيفة "واشنطن بوست" إلى حادثة مأسوية وقعت في 2017: هجوم مانشستر. يومذاك، قتل 22 شخصاً وأصيب أكثر من 50 آخرين في انفجار هز قاعة حفلات في مدينة مانشستر شمال إنجلترا، حيث كانت المغنية الأميركية أريانا غراندي تحيي حفلة موسيقية.
أدانت رئيسة الوزراء البريطانية آنذاك تيريزا ماي الاعتداء الذي وصفته "بالإرهابي المروع". وذكرت الشرطة البريطانية أن منفذ الهجوم لقي حتفه عند تفجيره عبوة ناسفة، مضيفة أن أطفالاً قتلوا خلال الهجوم.
كانت كاثرين بوكانان، بروفيسورة في علم النفس في "جامعة إسيكس"، تقود سيارتها إلى العمل عندما سمعت ذلك الخبر "المفجع"، عبر جهاز الراديو فانهمرت الدموع على وجنتيها فوراً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولكن وسط طوفان العناوين الرئيسة المدمرة حول هذه الحادثة، لاحظت بوكانان "أن متابعتها بعض الأنباء حول التعاطف مع الضحايا والتعامل بلطف مع من واجهوا هذه الجريمة، وأفعال الخير والإحسان التي أعقبت الهجوم، قد تركت في نفسها بعض الشعور بالارتياح.
بالعودة إلى الأخبار في شأن الهجوم، ستجد أن كثيرين قدموا المأوى والطعام ووسائل لأشخاص لا تربطهم بهم أي صلة قرابة، فيما انغمرت وسائل التواصل الاجتماعي برسائل الدعم التي تدفقت من مختلف أنحاء العالم. واصطف سكان المنطقة في الشوارع للتبرع بالدم بعد الهجوم المميت، وفرشوا طاولات الطعام والمشروبات على الرصيف مجاناً لكل محتاج.
نقلت "واشنطن بوست" عن بوكانان قولها إنها "أصبحت عاطفية جداً وممتنة لأن الخير ما زال موجوداً" في العالم، موضحة أن متابعة الأخبار المجبولة بالمعروف والعطف قد بثت فيها شعوراً بالأمل كانت فقدته بعد أن عرفت بالهجوم.
بدأت بوكانان تفكر ما إذا كان التعرض لمحتوى مبهج من شأنه أن يقاوم التأثيرات المضرة المعروفة التي تطرحها متابعة القصص الإخبارية المروعة. وتشمل الأعراض الشائعة زيادة التوتر، واليأس، والغضب، والقلق، والاكتئاب.
حتى إن بعض الدراسات تتحدث عن علاقة تربط بين ازدياد الأمراض العضوية وحالات السكري وقرحة المعدة والصداع النصفي، والأخبار المزعجة التي ننكشف عليها كل يوم وكل ساعة.
وتقول بوكانان، إن الباحثة في داخلها أرادت أن تعرف ما إذا كان الشعور الحسن الذي انتابها بفعل الأنباء الطيبة يخصها هي فقط، أم أنه ينطبق أيضاً على الآخرين.
بناء عليه، شرعت في عام 2017 بدراسة استغرقت منها سنوات عدة ونشرت في 17 مايو (أيار) الماضي في مجلة "بلوس وان" PLOS One المحكمة. وقد وجدت أن تلقف الأخبار التي تنطوي على اللطف والخير تخفف من عبء قراءة القصص الإخبارية المؤلمة.
وترى بوكانان أن الأخبار السيئة التي تعرضها وسائل الإعلام تجعلنا نعتقد أن العالم أخطر مما هو عليه فعلاً. رؤية لطف الآخرين تساعدنا في التمسك بالاعتقاد القائل إن العالم ليس بهذا السوء".
في الدراسة، ارتأت بوكانان وزميلتها جيليان ساندستروم، علماً أن الأخيرة واحدة من كبار المحاضرين في سيكولوجيا اللطف في "جامعة ساسكس"، تقسيم 1800 مشارك إلى عدد من المجموعات، تابعت كل منها مقاطع إخبارية أو مقالات حول هجوم إرهابي في المملكة المتحدة أو حدث كارثي مماثل. وفيما اطلع بعض المجموعات على أخبار مزعجة فقط، عرضت على مجموعات أخرى قصة عن عمل بطولي أو خبر ينطوي على محتوى طريف.
أفادت المجموعة التي شاهدت الأخبار المقلقة فحسب عن زيادة في المشاعر السلبية وتراجع في المشاعر الإيجابية. وأشارت أيضاً إلى شعورها بمزيد من التشاؤم تجاه الإنسانية والمجتمع. وفي المقابل، أفاد المشاركون الذين اطلعوا على قصص لطيفة إلى جانب الأخبار السيئة بأن مشاعر أقل سلبية انتابتهم مقرونة بارتفاع في مستوى المشاعر الإيجابية. حتى إنهم أبلغوا عن نظرة أكثر تفاؤلاً إلى العالم عموماً.
استخدم المشاركون مقياساً من واحد (أي بالغ التدني أو لا على الإطلاق) إلى خمسة (يعني جداً) بغية وضع تقييم لمستوى السلبية والإيجابية التي شعر بها المشاركون قبل تعرضهم للمحتوى، وبعده.
في أحد الأمثلة، قفز مقياس السلبية لدى أحد المشاركين الذين تعرضوا لأخبار مزعجة فقط من 1.32 إلى 2.48، وانخفض مستوى إيجابيته من 2.59 إلى 1.91 بعد مشاهدته هذه الأخبار. وبلغ مشارك آخر شاهد أنباء محزنة إنما سمح له بمتابعة أخبار جيدة أيضاً، 1.77 على مقياس السلبية بعد أن كان 1.32، ولكنه وصل إلى 3.10 على مقياس الإيجابية بعد أن كان 2.89.
مراراً وتكراراً خلال بحثهما، رأت بوكانان وساندستروم أن الأخبار المبهجة توفر حاجزاً عاطفياً ضد الأخبار المؤلمة. كذلك وجدتا أن "اللطف تحديداً ينطوي على ميزة فريدة"، كما قالت بوكانان، مشيرة إلى أنه في حين أن القصص المسلية (مثل إطلاق الببغاوات الشتائم أو النكات) قللت من تأثير الأخبار المزعجة، كانت القصص المتعلقة بأعمال اللطف أكثر قوة.
في رأي بوكانان، "تنطوي القصص الإخبارية التي تعرض لطف الآخرين على مجموعة حقيقية من الفوائد العاطفية والمعرفية بالنسبة إلى الناس. إنها أشبه بزر يبعث الأمل ويتيح لنا أن نثق بهذه الإنسانية مجدداً".
عندما يشهد البشر فعلاً ينم عن طيبة ولطف، يسكن قلوبهم "شعور دافئ وغامض" و"رغبة فورية في أن يكونوا أشخاصاً أفضل".
ترى بوكانان أنه من المهم البقاء على اطلاع بالأحداث الجارية، بما في ذلك المؤلمة منها، ولكن التوازن في تغطية المستجدات المزعجة منها والسارة من شأنه أن يخفف من "متلازمة العالم السيئ" mean world syndrome، أي عندما يبدأ الناس، بعد التعرض الطويل المدى للأخبار المزعجة، في رؤية العالم كمكان أكثر قتامة مما هو عليه في الواقع. وقالت إنك "عندما تعتقد أن العالم مكان خطر حقاً، تسعى نوعاً ما إلى الانسحاب منه والعزلة". وعلى النقيض من ذلك، فإن التعرض لأخبار إيجابية يمكن أن يحفز على الارتقاء، ويستبدل بعض مشاعر السخرية واليأس بالتفاؤل وحتى بالعمل. وفي جوهره، يشجع الناس على الشعور بالراحة، وأحياناً يتحولون إلى سلوكيات أفضل.
وفق بوكانان، لا يكمن الحل في تجنب الأخبار السلبية، لأن "تجاهل الأخبار يؤدي في الواقع إلى نفور الآخرين ويمكن أن يجعلك تشعر بالانفصال عن العالم الذي تعيش فيه".
في الواقع، تهيمن قصص الكوارث والحرب والمخالفات على الأخبار، وتفيض المعمورة بالحزن والدمار، ولكن لا ينبغي للناس أن يغضوا نظرهم عن هذه الحقائق، بل الأجدر بنا أن نتعاطف مع معاناة الآخرين، على حد قول البروفيسورة، مع الأهمية التي يكتسيها الاطلاع على الأحداث الجيدة التي يشهدها العالم.
إضافة إلى دراسة بوكانان، خلصت دراسات أخرى إلى نتائج مماثلة. نهضت دينيس بادن، بروفيسورة في "جامعة ساوثهامبتون"، في إنجلترا أيضاً، ببحث حول الآثار السلبية لهيمنة الأخبار السلبية في وسائل الإعلام، وفوائد الصحافة البناءة والقائمة على الحلول. يطلق على مشروعها البحثي، الذي نشر في عام 2019، اسم "تأثير الأخبار البناءة على الاستجابات العاطفية والسلوكية".
إذ ترى أن طريقة تغطيتنا الأحداث التي يشهدها العالم تحمل أهمية كبيرة، تقول بادين إننا "نميل إلى انتقاء الأخبار الأكثر إثارة للقلق"، مضيفة أنها وجدت في بحثها أن القصص الإخبارية المبهجة تعزز السلوك الإيجابي لدى الإنسان. أما الأخبار المقلقة فتقود على الأرجح إلى القنوط واليأس.
ومن الأمثلة على ما تقدم آثار هجمات 11 سبتمبر الإرهابية. رد الناس على الفظائع بالتبرع بالدم وتقديم الهدايا للضحايا واللجوء إلى الأعمال الخيرية، التي ألهمت الآخرين فعل الشيء نفسه. يشار إلى هذا المفهوم في دراسة بوكانان باسم "التعاطف مع الكارثة"، أي عندما تكون ردود فعل الناس تجاه الظروف الصعبة أعمالاً مليئة بالخير والإحسان وتقديم المساعدة.
في الحقيقة، لن تنفك الأخبار المزعجة بل المأسوية تتوالى علينا. مثلاً، في الوقت الراهن يدخل النزاع السوداني شهره الثالث من دون حل والجرائم ضد الإنسانية منفلتة من عقالها، ولكن إنقاذ طفل واحد من بين المئات يزرع بسمة على وجوهنا جميعاً. وقبل أشهر أطبقت جائحة "كورونا" على العالم وبثت الذعر والحزن قبل أن تنحسر، ولكن تفاني الممرضات والممرضين والأطباء في علاج المرضى، واستماتة الباحثين في سبيل التوصل إلى علاجات ولقاحات مضادة، والتزام المرضى بالعزلة من أجل خير الآخرين، كلها أسباب ساعدتنا على التعافي نفسياً وأكدت لنا أن العالم ما زال بخير.