عاد الميركانتيليون... وليس كل العود أحمد!

منذ 1 سنة 201

بذريعة الحماية من تغيرات المناخ الفتاكة، وممارسات الدول المتقدمة وتكتلاتها لسياسات صناعية مدفوعة باعتبارات حمائية وتخوف من فقدانها السبق في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، تواجه اليوم البلدان النامية تحديات كبرى في تجارتها الدولية وفي قدرتها على جذب استثمارات أجنبية، ما يستدعي تدابير عاجلة من حكوماتها وتنسيقاً ملزماً بينها.

وتحديداً فللممارسات التجارية الجديدة المرتبطة بتنفيذ القانون الأميركي للرقائق الإلكترونية والعلوم، وكذلك ما يُعرف بقانون الحد من التضخم ودفعه لاستثمارات ذات توجه داخلي في مجالات تشمل الاقتصاد الأخضر والتصدي لتغيرات المناخ، آثار يوضحها الاقتصادي الحائز جائزة نوبل مايك سبنس، في ثلاثة عناصر: العنصر الأول يتمثل في العلوم والتكنولوجيا ورأس المال البشري ذي الارتباط بمجالاتهم؛ والعنصر الثاني يترتب على تنفيذه تحويل مكونات صناعية بعينها وسلاسل إمدادها إلى الولايات المتحدة أو شركاء تثق بهم؛ والعنصر الثالث يتناول قيوداً صريحة على التجارة والاستثمار والتكنولوجيا مع الصين.

وفي المقابل أعلن الاتحاد الأوروبي اعتزامه تطبيق إجراءات من شأنها خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. ولما كان هذا الهدف يتطلب إعادة هيكلة الصناعات الأوروبية المتسببة في الانبعاثات الضارة ومطالبتها بدفع سعر كربون أعلى للحض على التغيير، كي لا تتضرر هذه الصناعات من المنافسة الخارجية من شركات خارج أوروبا لا تخضع لتسعير مرتفع مماثل للكربون... قررت المفوضية الأوروبية فرض تسعير إضافي على وارداتها من الخارج في إطار «آلية تعديل حدود الكربون التي تُعرف اختصاراً بـ«سي بام»، وهو إجراء غير مسبوق سيؤثر على صادرات الدول النامية، بخاصة الصلب والأسمدة ومشتقات الطاقة والإسمنت والألمنيوم، هذا علماً أن هذه الآلية ستدخل حيز التنفيذ اعتباراً من أول شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام الجاري.

وتتعدد الدوافع المعلنة لهذه الإجراءات ولكنّ تزامُن صدورها مع تصاعد التوترات الجيوسياسية وتزايد تأثير تيارات سياسية ذات توجهات آيديولوجية حمائية وانعزالية، إذ يستدعي هذا كله ما كان من انتشار لأفكار الميركانتيليين الذين سيطروا بآرائهم على الاقتصاد والسياسات التجارية بين القرنين السادس عشر والثامن عشر؛ حيث ذهبوا إلى أن ثروة العالم محدودة، وأن على أي دولة أن تراكم ثروتها بتقييد الواردات والتوسع في تجارتها، ولو كان ذلك بحروب واحتلال استيطاني وتجارة للبشر لتوسيع أسواقها والسيطرة على الخامات وتراكم مخزونها من الذهب كمقياس للثروة.

وقد أتى آدم سميث، منشئ علم الاقتصاد الحديث في القرن الثامن عشر، بما يدحض آراء الميركانتيليين، مُظهراً مزايا التجارة الحرة على الإنتاجية والتخصص وتقسيم العمل. ومنذ منتصف القرن الماضي لطالما نادت البلدان المتقدمة اقتصادياً بتحرير التجارة ورفع القيود عن تدفقات الأموال وربط المعاملات الاقتصادية بقواعد نظام دولي أُنشئت له منظمات وأُبرمت بشأنه اتفاقات ملزمة وفقاً لترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية. حيث لا يكتفي المنتصر بكتابة التاريخ، ولكنه يسعى أيضاً لتثبيت قواعد للعبة الأمم تضمن استمرار انتصاره بأشكال أخرى غير الحرب. وهذا ما كان، حتى أتت لحظات فاصلة باتت مهدِّدة للمكاسب المستمرة والمتراكمة للقوى التقليدية مع تصاعد قوى جديدة على الصعيدين العالمي والإقليمي حققت مكاسب اقتصادية بمشقة واجتهاد وفقاً لقواعد اللعبة المتعارف عليها، فإذا بمن رسم القواعد ينتهكها ويتمرد عليها بعدما استنفد أغراضه منها. وأصبحنا اليوم في عالم تُدار تجارته ورؤوس أمواله واستثماراته وفقاً لممارسات نائية الصلة عن قواعد اللعبة التي تكتظ بها نصوص الاتفاقات الدولية للتجارة والاستثمار، إضافةً إلى أن هناك أدوات الاقتصاد، أي التمويل الذي تم تسليحه هجوماً أو دفاعاً كيفما اتفق الوضع.

لقد حققت سياسات تحرير التجارة والاستثمار مكاسب لمن احترفوا ممارستها بارتفاع في معدلات النمو الاقتصادي وزيادة حجم التجارة الدولية 20 مرة منذ ستينات القرن الماضي، وانخفاض لأعداد من يعانون من الفقر المدقع منذ بداية التسعينات أربع مرات لتقلّ نسبتهم عن 10 في المائة من سكان العالم، وهو ما نوهت به مديرتا صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية في مقال مشترك لهما صدر منذ أيام، محذرتَين فيه من خطورة موجة تراجع جهود التعاون المشترك والتجارة الدولية.

مع كل أزمة ألمّت بالعالم ضاق الخناق على انسياب التجارة الدولية، وكلما فُرضت قيود حمائية على الواردات والصادرات تجدها استمرت ومن ثَمّ أُضيف إليها المزيد، على الرغم من التأكيدات على استثنائيتها وأنها لفترة مؤقتة، ليظهر جلياً أنه لا يوجد ما هو أكثر دواماً من الإجراءات المؤقتة. فقد فرضت قيود على التجارة العالمية بعد الأزمة المالية العالمية في 2008 ما زال الكثير منها سارياً، ثم أتت أزمة الجائحة والحرب الروسية - الأوكرانية بقيود أخرى على التجارة والاستثمار.

ربما استجاب البعض لدعوة مديرتي منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي إلى تدبر مزايا التعاون وانسياب التجارة على الإنتاجية وفوائدها لأسواق العمل وزيادة فرص النمو من خلال التصدير وحماية الاقتصادات من خلال تنوع مصادر المنتجات إذا ما تعرض أحد المصادر بما في ذلك المحلية منها لصدمات. ولكنّ الأَولى بالاستجابة هم الميركانتيليون الجدد أينما ثقفوا. وعلى البلدان النامية المتضررة حتماً ألا تكتفي بلوم منتهكي القواعد، أو التحسر على زمن تعيس للكيل بمكيالين، في زمن أتعس تعددت فيه المكاييل. فالفعل الأول البسيط هو إثبات الوقائع في المنظمات الدولية المعنية لتذكيرها بمسؤولياتها وتبيان أوجه الضرر والتعويض. والفعل الثاني هو التوسع في الترتيبات الإقليمية الجديدة التي تضم البلدان النامية والأسواق الناشئة دفعاً للتجارة والاستثمار بينها. والفعل الثالث هو التحوط في ترتيبات العمل المناخي ضد أي إجراء يستغلها قصراً لتحقيق مكاسب من الحمائية الجديدة. الفعل الرابع هو تقييد الاستعانة بالاستدانة الدولية في تمويل التنمية ومشاريع المناخ، والدفع بإصرار إلى التمويل من خلال الاستثمارات والمنح، وأن يكون الملجأ الأخير الاقتراض الميسّر طويل الأجل لمشاريع حيوية ذات أولوية.