ظلّ الوالد

منذ 4 أشهر 85

كارثيّة كانت علاقتي بوالدي، وكانت السنوات التي أمضيتها في كنفه، من الحادية عشرة إلى السادسة عشرة من عمري، كابوساً حقيقياً، لذلك كنت دائماً أحسد أصدقائي ورفاق الطفولة والمراهقة الذين كانت تربطهم علاقات جيدة بأهلهم، خارج إطار التراتبية والسلطة والتبعية، وأقرب إلى المودّة والتواطؤ.

أذكر بوضوح شديد، على سبيل المثال، كم كنت أتمنّى أن تكون علاقتي به شبيهة بتلك التي كانت تقوم بين زميلي في الدراسة «راموس النحيل» ووالده الذي كان يرافقه كل أيام السبت إلى تدريبات فريق كرة القدم في المدرسة، ثم يندسّ بين المشجّعين يحمّسه في المباريات، ويتأثر حتى البكاء عندما كان ابنه يسجّل هدفاً في مرمى الفريق الخصم.

وكان من حسن طالعي إحدى المرات أن رافقت راموس ووالده إلى الملعب لمشاهدة إحدى المباريات، وشاهدت كيف كانا يتبادلان الطرائف والتعليقات الساخرة، حتى يُخيّل للناظر أنهما صديقان من جيل واحد، كم كان محظوظاً «راموس النحيل»! ربما إنني في تلك الحقبة استقرّ في ذهني الاعتقاد أن العلاقة الحسنة مع الوالد هي التي تترك عند الإنسان ملامح اللطف والدماثة في أخلاقه.

هذا الاعتقاد كان من الأسباب التي جعلتني أتأثر بشدّة لدى قراءة كتاب خوان كروز الأخير «ليته أكتوبر»، وهو كناية عن مذكرات تدور بكاملها حول شخصية الوالد الذي كان له عميق الأثر في طفولة الكاتب، وبقي حياً في فؤاده وذاكرته عبر مَشاهد متفرقة تدور حولها فصول الكتاب.

هي مذكرات أدبية، وليست تاريخية، أي أنها ليست مجرد ذكريات فحسب، بل فيها قدر من الخيال المحمول على أجنحة العواطف والمشاعر الحقيقية التي يسردها المؤلف بأناقة وخفر، وعلى غرار العديد من روايات خوان كروز، يجمع هذا الكتاب بين الغنائية، والسرد القصصي، والإيحاء، والتأمل الذاتي، والحنين، في نص يتأرجح بين الشعر والنثر على تُخوم السيرة الذاتية والرواية. عنوان الكتاب مقتبَس من جملة لترومان كابوتي، الذي في إحدى المراحل التعيسة التي مرّ بها في حياته كتب لصديق له يقول: «يعجبني كثيراً هذا الشهر، حتى إنني أتمنّى أن تكون كل الأشهر أكتوبر»، جميلة هي هذه الجملة، لكنها تنطوي على تناقض جوهري؛ لأن المرء إذا كان سعيداً على الدوام يصبح دائم التعاسة، أو يقع في اللامبالاة؛ لأن السعادة كما اللذة التي هي من أرقى ظواهرها، لا وجود لها سوى في خروجها الاستثنائي عن الرتابة والمألوف. إنها جملة لا تستقيم إلا من حيث كونها تَوقاً إلى ديمومة التجارب الكثيفة والعميقة التي، لفترة وجيزة، تُحرّرنا من الواجبات والشواغل والقيود التي تنثال فيها حياتنا، وترقى بنا إلى وهم التصوّر أننا لسنا نحن، في تناغم مطلَق مع ذاتنا العميقة لنجسّد أحلامنا المخفية.

واللافت أن تلك الطفولة التي يستحضرها خوان كروز في كتابه ممزوجة بالحنين والرقة في ظل والده، لم تكن في الواقع سعيدة، كانت طفولة صبي فقير ومريض، يقع بانتظام صريع نوبات الربو التي كانت تقطع عليه أنفاسه، وتضعه على حافة الإغماء، وكانت عائلته الفلّاحة والمتواضعة تداويها بالخِرَق المبلّلة بالماء البارد. كانت طفولته تدور في القلّة، والديون والمطالِبين بسدادها، وغذاء قوامه البطاطا، وتغيّب أطفال الأسرة باستمرار عن المدرسة؛ لعدم توفر أجرة النقل للوصول إليها. أما الوالدة التي كانت تجترح المعجزات كل يوم لإطعام أولادها، بلا شكاة، وغافلة عن بطولاتها اليومية وعظمتها الأخلاقية، كما لو أن تلك كانت الحياة، ولا يمكن أن تكون غير ذلك. ومن أجمل ما في هذا الكتاب تناوله الفقر والفقراء بأسلوب يمزج بين الحنان واللوعة أمام الظلم والقسوة.

في ذلك البيت الذي تدور فيه معظم وقائع الكتاب، والذي أتصوره أقرب ما يكون إلى الكوخ الريفي الذي تحيط به أشجار الموز، تسرح بينها الدجاجات، وتأوي فيه الأسرة محشورة، أرى طفلاً يسترق السماع إلى الراديو من جهاز يعود إلى العصر الحجري، ويُمضي ساعات في مطالعة مغامرات جول فيرن على ضوء قنديل يرتجف نوره الخافت قرب النافذة المُطلّة على بستان الموز.

ينظر إليه والداه باستغراب، لكنهما يتركانه وشأنه، كان شغوفاً منذ صغره بالمطالعة؛ تساعده على التعويض عما لا يملك، ولن يتسنّى له أن يعيش.

أما شغفه الآخر الذي لا يكشف عنه، بل نلمسه من إيحاءاته المتكررة التي سرعان ما تعبق بها أجواء الكتاب، فهو والده الذي يراقبه سراً عند بزوغ الفجر وهو يحلق ذقنه أمام مرآة صغيرة قبل أن يغادر المنزل بحثاً عن شيء، أو أحد، لا أحد يعرف ماذا ومن هو.

بارع خوان كروز في رسم صورة الأب بين الظلال، ومن خلال المعلومات المكتومة أو الخفيّة. نادراً ما نسمعه يتكلم، ولا نراه قط يلاطف أو يداعب ابنه الذي لا ينفكّ يراقبه ويدور حوله، والمرة الوحيدة التي يصفعه فيها، ثم يندم، يحاول مصالحته بعبارة ناشفة كتلك التي يتفوّه بها من حين إلى آخر، وتبدو كأنها تهدف لقطع التواصل عوضاً عن المحاورة، لكن على الرغم من ذلك يبدو أن ذلك الكائن القدري والبارد الذي يسير هائماً ويلاحقه الدائنون حتى في أحلامه، يُخفي وراء قسوته قدراً كبيراً من الدفء والرقة والعطف، تتبدّى فجأة من بعض لفتاته عندما يفتح باب الشاحنة ويدعو ابنه إلى الجلوس بجنبه كي يرافقه في جولته، أو يحمله على ظهره فوق الدراجة النارية، أو يرافقه إلى تلة لمشاهدة مباراة في كرة القدم قرب المقابر، تلك المناسبات كانت تغمر الصبي بسعادة لا تُوصف، لكنها ترشح باستمرار من أسلوبه الذي يمسّ أعمق المشاعر عند القارئ.

التعاضد الأسري وحب الأولاد، كما الفقر، محطات متكررة يتناولها الكتاب بخفر شديد، يُؤتي المفعول المعاكس؛ يعظّمها عوضاً عن التقليل من شأنها. الفقر ماثل بقوة، يخترق حياة الكبار والصغار، والأقارب والأصدقاء، باستثناء أولئك الذين أُتيح لهم أن يغادروا جزيرة تنريفي ويهاجروا إلى فنزويلا، لكن خوان كروز يجعل القارئ يشعر، رغم كل ذلك، أن الذين كانوا يعيشون تلك الظروف كانوا أيضاً قادرين على التمتع بالحياة، من حين إلى آخر، يقتنصون من الحرمان والفشل لحظات السعادة والحماس والرضى، والصداقة، والزيارات، واللقاءات العائلية، والرحلات لاستكشاف بعض الأماكن الغريبة، كذلك الذي وقع فيه أحد النيازك.

عندي يقين بأنه لو قُدّر لخوان كروز أن يختار واحدة من بين هواياته ومِهَنه المتعددة، لاختار الصحافة، أعرفه جيداً منذ زمن طويل، وأعرف مدى الحماس الذي يسكنه ويُقبل به على كل شيء، وبخاصة على إجراء المقابلات أو التحقيقات الصحافية التي يبرع بها حدّ الكمال، لكنه في هذا الكتاب يُظهر لنا كيف أن الأدب الذي هو نقيض الواقع الذي نعيشه، هو أيضاً عملية سحرية تجعلنا نعيش حياة أخرى ونكون غير ما نحن.