تقول بروك إيدن المغنية التي ولدت في فلوريدا: "أعتقد أن ما نراه في موسيقى الكانتري (موسيقى الريف الشعبية التي تعود جذورها إلى أنواع كالبلوز وأنماط موسيقى رعاة البقر في الغرب الأميركي) هو تجسيد مباشر للتطورات التي تعيشها الولايات المتحدة والديناميكيات السائدة فيها. فقبل انتخاب دونالد ترمب، لم يكن الانقسام السياسي بين "جمهوري" و"ديمقراطي" بهذه الحدة. وما يمثل تحدياً اليوم هو الاستقطاب والتطرف اللذين نراهما على كلا الجانبين".
ويسلط ذلك الضوء على درجة التوتر في ناشفيل (عاصمة ولاية تينيسي)، حيث إن إيدن البالغة من العمر 34 عاماً، كانت من الفنانين القلائل المستعدين للتحدث عن المسألة مع "اندبندنت"، في سياق إعداد هذا الموضوع. ففي الفترة التي سبقت الانتخابات الأميركية، بلغت الحرب الثقافية المثيرة للجدل التي اجتاحت موسيقى الكانتري، ذروتها المحزنة، مما أدى إلى زرع الخلاف بين الفنانين ضمن مشهد كان مشهوراً في ما مضى بمشاعره القوية بالوحدة وروح الأسرة.
وبالنسبة إلى أولئك الذين لم يتابعوا المشهد من كثب في الأعوام الأخيرة، فالصورة التي كانت شائعة ذات يوم عن جمهور من المعجبين وهم ينشدون بأداء حماسي وانسجام تام أغنية "جولين" لدوللي بارتون، التي تعبر عن مزيج من الفرح والألم، أخذت تتلاشى بشكل متزايد، بحيث باتت تطغى عليها الأناشيد السياسية الأكثر حداثة، التي تتسم بلهجة أكثر خطورة.
وتتنهد بروك إيدن المعروفة بسلوكها اللبق قائلة، "إن مدى هذا الانقسام هو فعلاً مثير للذهول، فما نفتقر إليه في الوقت الراهن هو ما يحدد مفهوم موسيقى الكانتري التي من المفترض أن تتمحور حول مفهوم الأسرة والوحدة. ومع ذلك فإن ما نراه اليوم هو عائلات منقسمة في اتجاهين متعاكسين، إلى حد أن النقطة الوسطية للتلاقي التي كانت موجودة في السابق قد اختفت تماماً".
حتى الأفراد الذين ليسوا على دراية جيدة بموسيقى الكانتري، ربما يدركون الجدل شبه الأسطوري الذي اندلع عندما انتقدت فرقة "ذا تشيكس" The Chicks، التي كانت تعرف سابقاً باسم "ديكسي تشيكس"Dixie Chicks، الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش علناً، وهو ابن منطقتها ولاية تكساس، في ما يتعلق بقراره آنذاك القيام بغزو وشيك للعراق (بعد أحداث "11 سبتمبر").
ورداً على ذلك، جرى في حينه حرق الأقراص المدمجة لفرقة موسيقى الكانتري، وتم إدراجها على القائمة السوداء في جميع المحطات الإذاعية الكبرى في البلاد تقريباً، وجرى إلغاء صفقات الرعاية المالية لحفلاتها، فيما تلقى أعضاء المجموعة الثلاثة تهديدات بالقتل.
منذ تلك الحادثة، أشار عدد من الفنانين، بمن فيهم ملكة موسيقى الـ"كانتري بوب" تايلور سويفت، إلى تلك اللحظة المحددة باعتبارها حافزاً لإحجامهم عن الخوض في أي نقاشات سياسية في حياتهم المهنية.
ومع ذلك، خلال العقد الماضي، طرأ تحول ما على الساحة الأميركية. وبالنسبة إلى كثيرين، تمثل ذلك في تولي دونالد ترمب مقاليد السلطة.
فقد قاد الرئيس السابق المثير للانقسام الحزب "الجمهوري" نحو اليمين، وهي خطوة رحبت بها قطاعات كبيرة من الأميركيين البيض. فلطالما شعر كثيرون في هذه الفئة بأن أصواتهم قد جرى تهميشها، وبأن تأثيرهم السياسي تضاءل بعد فترتين من رئاسة باراك أوباما للبلاد.
وفجأة تهاوت جميع الضوابط وتم تجاوز الخطوط الحمر في سلسلة من الأزمات هزت البلاد. وأدت أعمال إطلاق النار الجماعية إلى وضع قضية امتلاك السلاح في مقدم المناقشات الوطنية، في حين تسبب مقتل جورج فلويد (الرجل الأسود الذي قضى في مدينة مينيابوليس على يد عنصر أبيض في الشرطة هو ديريك شوفين) بزعزعة الثقة في قوى الشرطة. وانتشرت أعمال الاحتيال ونظريات المؤامرات والعناصر السامة في وسائل التواصل الاجتماعي، كالنار في الهشيم، مما أدى إلى تآكل الروابط المجتمعية وانشطار الولايات المتحدة إلى قسمين.
في عام 2017، سلطت الأضواء على منصة تنصيب دونالد ترمب، مما كشف عن تحد للرئيس المنتخب حديثاً في تأمين أداء فني رفيع المستوى. ويمكن القول إن الاسم الوحيد "البارز" كان مغني الكانتري توبي كيث، الذي أثارت أغنيته المثيرة للجدل بعد أحداث "11 سبتمبر"، التي تحمل عنوان "بالإذن من الأحمر والأبيض والأزرق" Courtesy of the Red White and Blue المشاعر (أداها في حفل تنصيب ترمب وترمز إلى ألوان العلم الأميركي. وتعبر عن التصميم على حماية الولايات المتحدة).
من ناحية أخرى، وجد غارث بروكس، وهو نجم آخر لموسيقى الكانتري، أنه مضطر للدفاع عن نفسه أمام معجبين "محبطين"، افترضوا أنه سيكون ضمن تشكيلة الفنانين في حفل تنصيب ترمب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي كواليس المهرجانات الموسيقية، أصبحت أبواب غرف تبديل الملابس التي كانت تترك مفتوحة في السابق، تغلق الآن بإحكام. وقال منتج المهرجان ريندي لوفليدي لمجلة "رولينغ ستون" في سبتمبر (أيلول) الماضي، إنه "قبل 10 أو 15 عاماً، كان من الشائع أن يتحلق الفنانون في دائرة حول طاولة ويمسكون بقيثاراتهم ويبدأون تلقائياً بإنشاد أغاني الكانتري الكلاسيكية. كان هناك شعور قوي بالصداقة الحميمة خلال تلك الأوقات. أما الآن، فقد تضاءلت تلك الصداقة الحميمة بشكل ملحوظ. وبات الفنانون يميلون إلى البقاء ضمن مجتمعاتهم".
وظهرت العام الماضي مؤشرات بارزة على الانقسام في ناشفيل، فقد أثارت أغنية جيسون ألدين بعنوان "حاولوا ذلك في بلدة صغيرة" Try That in a Small Town التي صدرت في شهر مايو (أيار)، جدلاً بسبب محتواها القوي المؤيد لاقتناء أسلحة نارية. وتضمن الفيديو الموسيقي للأغنية، الذي تم تصويره في محكمة تينيسي حيث أعدم مراهق أسود بلا محاكمة في عام 1927، مشاهد من احتجاجات حركة "حياة السود مهمة" Black Lives Matter معروضة على واجهة المبنى. وبالنسبة إلى كثير من الأفراد، بمن فيهم زملاء ألدين من الفنانين، فقد اعتبرت تلك الخطوة مبالغاً فيها.
وفي إشارة إلى أغنية ألدين غردت شيريل كرو قائلة، "أنا أتحدر من بلدة صغيرة. حتى في البلدات الصغيرة سئم الناس من العنف. إن الترويج للعنف لا يتماشى بأي شكل من الأشكال مع معتقداتنا، سواء على مستوى البلدات الصغيرة أو على أميركا ككل. يجب أن تكون على دراية بذلك أكثر من أي شخص آخر بعدما نجوت من إطلاق نار جماعي، هذا لا يمثل القيم الأميركية أو روح المجتمعات الصغيرة. إنها سلوكيات ما غير مقبولة".
ألدين أوضح لشبكة "سي بي أس" الأميركية هذا الأسبوع، أنه ليس لديه معرفة مسبقة بماضي المحكمة. وقال "لكنني أيضاً لا أعود 100 عام إلى الوراء كي أتحقق من تاريخ مكان ما قبل أن نذهب للتصوير فيه".
وأضاف "بصراحة، إذا كنت في الجنوب، قد تتمكن من الذهاب إلى أي محكمة في بلدة صغيرة، وستجد صعوبة بالغة في العثور على واحدة لم تكن مرتبطة في مرحلة ما بقضايا عنصرية، على مر الأعوام".
وتابع يقول إن "أغنية Try That in a Small Town كان المقصود منها أن تكون رداً على ما وصفه بـ"الخروج على القانون، وعدم احترام أفراد الشرطة، وتدمير المدن فقط... أنا شخصياً لا أحبذ ذلك".
بعد ثلاثة أشهر فقط من أغنية ألدين، أصدر الوافد الجديد أوليفر أنطوني أغنية "رجال أثرياء شمال ريتشموند" Rich Men North of Richmond، التي تضمنت كلمات تنتقد الضرائب، و"الغش في الرعاية الاجتماعية"، والأشخاص الذين يعانون زيادة في الوزن. ولقيت الأغنية استحسان شخصيات "جمهورية" بارزة مثل كاري ليك ومارجوري تايلور غرين، إلى جانب مضيف البودكاست المثير للجدل جو روغان.
ومع ذلك، أعرب أنطوني في مقطع فيديو مؤثر تمت مشاركته وسط الجدل القائم، عن إحباطه من "محاولة المعلقين والنقاد من ذوي الميول المحافظة، ربط أنفسهم به".
وقال "أنا أكره أن يجري استخدام الأغنية كسلاح. لقد لاحظت أن اليمين يحاول تصنيفي كفرد منه، وأرى أن اليسار يحاول تقويضي وتشويه سمعتي، رداً على ذلك. إن هذا الهراء يجب أن يتوقف".
في هذا الإطار، يمكن القول إن دمج السياسة بموسيقى الكانتري ليس بالظاهرة الحديثة. ففي عشرينيات القرن الماضي، رأى هنري فورد صانع السيارات الأميركي المعروف بآرائه المعادية للسامية، أن ما كان يعرف آنذاك بـ"موسيقى الهيلبيلي" Hillbilly Music (نوع نشأ في المناطق الريفية الأميركية وقام بأدائه موسيقيون بيض)، يشكل بديلاً لموسيقى الجاز أكثر تميزاً واستقامة من الناحية الثقافية. وفي عام 1968، أيد مغني الكانتري الأميركي الكندي هانك سنو، المرشح الرئاسي العنصري جورج سي والاس. وفي مناسبة أخرى، أدى جوني كاش أغنيته الاحتجاجية "رجل ذو رداء أسود" Man in Black أمام الرئيس الأميركي الراحل نيكسون. لكن ما يبدو أنه قد تغير هو مجتمع موسيقى الكانتري نفسه.
وتقول إيدن إن "كل ما نشهده في وسائل الإعلام هو أفراد منخرطون في صراعات وشجارات صاخبة. إنه أمر صعب- لدى من كلا الجانبين أصدقاء وأشخاص أعتبرهم قدوة لي، ومن المحبط حقاً أن نشهد مثل هذا العداء السائد في الوقت الراهن".
بعض أبرز نجوم موسيقى الكانتري، بدءاً من دوللي بارتون وصولاً إلى لوك كومز، حاولوا الدعوة إلى السلام. وقال لوك كومز لـ"اندبندنت": "إن الأجواء الراهنة مثيرة للجدل ومحمومة، مما كان دائماً محبطاً للغاية بالنسبة إلي. أعتقد أن إحدى مزايا القوة العظيمة لبلادنا تتمثل في قدرة الناس على الاحتفاظ بآرائهم الخاصة وبحرية الاختلاف. أما الآن، فالجميع متحمسون إزاء كل شيء، وهذا يزيد من حدة التوتر الذي كان قائماً".
من جهة أخرى، تبرز دوللي بارتون ملكة موسيقى الكانتري والعرابة الشهيرة لها، بموقفها غير المنحاز لأي طرف، والقائم على الرفض الشديد للخوض في القضايا السياسية. وتقول: "أحاول الابتعاد عن هذه المنازعات السياسية لأنها لا تهمني. وتنحصر اهتماماتي في رفاه الناس، والقضايا الإنسانية... والحفاظ على حضارتنا".
لكن بالنسبة إلى بروك إيدن التي اعتنقت علناً قبل نحو عامين هويتها على أنها "حرة الجنس" (أو ما يعرف بـ"كوير" Queer وهو مصطلح عام يشير إلى أفراد الأقليات الجنسية من غير المغايرين)، فإن مجالات السياسة وحياتها الشخصية هي متشابكة بطبيعتها. وبعد فترة وجيزة من حصولها على صفقة قياسية في عام 2015، وقعت في حب ممثلتها الإذاعية (هيلاري هوفر -وتزوجتا منذ ذلك الحين)، في ما وصفته بأنه "مشهد مختلف تماماً بالنسبة إلى "مجتمع الميم" LGBT+ (المثليات والمثليين ومزدوجي التوجه الجنسي والمتحولين جنسياً).
وتوضح قائلة، "كان هناك أفراد بارزون في موسيقى الكانتري قبلي سبق أن أعلنوا عن هويتهم المثلية وواجهوا النبذ من مجتمع موسيقى الريف. لذا، نصحني مسؤولون عن مسيرتي المهنية بعدم الكشف عن ذلك علنا. كان موقفاً صعباً للغاية. لم يسبق لي أن وقعت في حب كهذا من قبل. وقبل أن ألتقي بزوجتي، كنت أعتقد أن شيئاً ما قد تحطم في داخلي. وها أنا في الـ26 من عمري، أختبر تلك المشاعر العميقة لأول مرة، لكنني غير قادرة على البوح بها ومناقشتها بشكل علني".
واجهت إيدن صراعاً عاطفيا جعلها "تنغلق على نفسها" عندما كانت حياتها المهنية في انطلاقتها. شعرت بأنها اضطرت إلى التنازل عن نزاهتها وأصالتها من أجل النجاح. وتقول "كان ذلك صعباً حقاً، فكيف يمكنك أن تكون فناناً إذا لم يسمح لك بالتعبير عن حقيقة ذاتك من خلال الغناء؟"
ومع ذلك، عندما قررت في النهاية أن تعلن عن هويتها الجنسية، كانت ردود الفعل التي تلقتها "أفضل بكثير" مما توقعت. وتعلق على ذلك بالقول: "تلقيت كثيراً من الحب والدعم". حتى عائلتها، التي تصفها بأنها "محافظة للغاية"، غيرت موقفها في ما يتعلق بزواج المثليين، على رغم أن هذا التحول في معتقدات الأسرة تطلب "الخوض في كثير من المناقشات وذرف كثير من الدموع".
وتقول أخيراً: "أعتقد أن عرض الحقائق مفيد. لقد كان من المشجع حقاً أن نشهد تحولاً في آراء أفراد العائلة ومواقفهم من هذه الأمور. عندما أخبرتهم بالحقيقة في البداية، لم ألق تعاطفاً أو دعماً. أما الآن، فهم من أكثر المؤيدين والداعمين لنا. لقد شهدت ما يمكن أن يفعله الحب والتواصل، وهذا ما يجعلني أشعر بالأمل. لكن عليكم أن تكونوا على استعداد للقيام بالعمل الشاق، وبذل الجهد اللازم للخوض في كل ذلك".