«طوفان السلام» 2

منذ 1 سنة 141

تطرقنا الأسبوع الماضي في هذه الصفحة إلى وجوب اختراق سياسي يحتوي التداعيات الكارثية لعملية «طوفان الأقصى» والرد الإسرائيلي الوحشي وغير المسبوق عليها، والذي قضى على البشر والحجر في هذا القطاع المنكوب. وكما اخترقت «حماس» السياج الأمني الحديدي، ينبغي على «طوفان السلام» اختراق السياج الفكري المسيطر في تل أبيب وواشنطن، الذي يمنع الاعتدال في إسرائيل من الإقدام الجدي الثابت والمثابر على الاعتراف بأن لا سلام سوى بإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة على أراضي فلسطين. ذكرنا أيضاً أن الاختراق هذا بحاجة لرافعة عربية تتشكل من السعودية ومصر والإمارات والأردن، تقع عليهم مسؤولية اجتراع مبادرة سلام من خارج السياق المتداول.

بانتظار تأثير نتائج ومفاعيل مقررات القمة العربية والإسلامية المشتركة التي عقدت في الرياض، وباقي المبادرات التي في معظمها تركز على وقف لإطلاق النار، وتأمين وصول المساعدات الإنسانية، وهي واجبة وضرورية حتماً، إنما غير كافية لوضع حد نهائي لمأساة تمتد لأكثر من سبعين سنة، وتحصد دورياً آلاف الضحايا المدنيين الأبرياء المحرومين أساساً من بديهيات العيش ومقومات الحياة الكريمة.

تأسيساً على آخر المستجدات، تبقى المبادرة المطلوبة من الرافعة العربية المكونة من دول الاعتدال، وتحديداً وليس حصراً تلك الموقعة على اتفاقيات سلام هي الأهم، وباتت ملحة وضرورية ولا بد أن تضع أولاً إطاراً واضحاً لا غنى عنه لتسوية النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني. ويستند هذا الإطار إلى أساسيات «مبادرة السلام العربية سنة 2002» وقبلها «اتفاق أوسلو»، ومآلات ذلك على قيام السلطة الفلسطينية ومبدأ حل الدولتين، التي لم تكن لتوجد لو لم يحقق «أوسلو» إمكانية الاعتراف المتبادل. إنّ حل الدولتين الذي تبنته المبادرة العربية بات يحتاج إلى تحديث بعض المتغيرات منذ سنة 2002 وحتى اليوم في فلسطين والمنطقة، ليشتمل على حوافز اقتصادية كبيرة خاصة لغزة المنكوبة وضمانات أمنية تطمئن الإسرائيليين. الحوافز الاقتصادية لتحسين أوضاع الفلسطينيين سياسياً وأمنياً ومعيشياً. أما الضمانات الأمنية فلن تكون فاعلة إلا إذ رُسم إطار للأمن الإقليمي على رأسه عناوين نبذ العنف ومكافحة الإرهاب بكل أشكاله ورفض المنظمات المسلحة من خارج الدولة الوطنية ومؤسساتها الدستورية أياً كانت المبررات والحجج التي تشرعها.

ثانياً، ما يجري في غزة بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) يجعل منها دون شك أولوية، إنما هذا لا يعني أن تُعالج غزة من خارج الإطار الذي تحدثنا عنه أو على حدة، ومن الزاوية الأمنية والإنسانية فقط، بل أن تكون من ضمن الحل الشامل للدولة الفلسطينية، وتحت مظلة السلطة الفلسطينية وحدها. بالنسبة للفترة الحالية والانتقالية، من المرجح بعد سكوت صوت الحرب أن يخضع شمال غزة للأسف لسيطرة أمنية إسرائيلية قد تمتد بضعة أشهر، بينما يكون جنوبها تحت مظلة دولية إقليمية إنسانية، ربما الأمم المتحدة مع دور مصري فاعل بالتنسيق معها. وإذا حصل ذلك، فمن الضروري أن يكون هناك دور نشط للسلطة الفلسطينية ولشخصيات فلسطينية فاعلة مستقلة ومتوافقة على عقد اجتماعيٍّ، وعلى رؤية وطنية للحرب والسلام.

النقطة الثالثة من المبادرة المفترضة هي وضع مسار لمفاوضات إسرائيلية - فلسطينية تدخل بتفاصيل الحل النهائي عبر تفاهمات أولية واتفاقات لاحقة متممة. العقبات التي سوف تبرز كثيرة، أبرزها معضلتان ليس من حل مثالي لهما: القدس واللاجئون، ما يحتم الاستعانة بأطراف ثالثة عربية ودولية وخبرات الذين عملوا على هاتين المعضلتين، للتوصل بالنسبة للقدس إلى ما يطلق عليه تسمية «الإجراءات الخاصة»، وهنا يبرز دور الأردن في إدارة وحماية الأماكن المقدسة.

النقطة الرابعة وبالتوازي مع هذا المسار التفاوضي، تدعو الدول الخليجية إلى مسار ثان يهدف إلى التفاهم مع إيران عبر محادثات إقليمية سياسية وأمنية بهدف تعزيز الأمن الإقليمي وتحصين الحل المرشح. من دون التفاهمات السياسية والأمنية مع إيران ستواجه جميع هذه الجهود مطبات وعراقيل كثيرة، أبرزها أدوار حلفاء إيران في لبنان وسوريا والعراق واليمن. تحقيق صيغة تعاونية واقعية ومعقولة بين إيران الدولة وليس نظام تصدير الثورة ودول الخليج ليس بالأمر السهل، ولا شك أن تطمين إيران أمر صعب كما تطمين جيرانها، خاصة في ظل وجود تباين آيديولوجي حاد وندرة للأرضيات المشتركة، ووفرة في الشكوك المتبادلة. لكن ذلك ليس مستحيلاً إذا اعترف كل طرف بتصور الطرف الآخر للأخطار التي تهدده، سواء كانت حقيقية أو متوهمة، ثم تبنى كلاهما معاً جملة من المبادئ للحد من مستويات المخاطر والتهديدات وترويض المصالح المختلفة والمتناقضة بينهما، والوصول إلى صيغ مشتركة حان الوقت للتفكير الخلّاق لبلوغها.

إشكالية هذا الطرح - البرنامج، هي هل يصلح إطلاقه مع وجود بنيامين نتنياهو على رأس الحكومة الإسرائيلية الذي يطلب المساعدة على هزيمة «حماس»، بينما يعمل على توسيع المستوطنات وضم الضفة الغربية وبناء دولة التفوق اليهودي، أم ينبغي انتظار رحيله المجهول التوقيت ومن دون معرفة من هو البديل، أم أن طرح مثل هذه المبادرة من شأنه حشر نتنياهو والتعجيل برحيله مع متطرفيه، وتسهيل مهمة المعارضة بقيادة بيني غانتس ويائير لبيد، والتفاوض معهما حول هذه الأفكار والمقترحات؟

في المقلب الآخر، يبرز ضعف السلطة الفلسطينية التي لا بديل عنها في هذه المرحلة، ولعل مبادرة مثل هذه تعطيها جرعة مقوية تساعدها على تجديد نفسها عبر الأطر المنظمة لوجودها.

دور دول الاعتدال العربي أو الرافعة العربية حاسم في تطبيق هذه الأفكار، وجعلها حقيقة متداولة عبر السياسة والدبلوماسية، وهنا تبرز الحاجة إلى الولايات المتحدة بوصفها وسيطاً وضامناً ومحفزاً في آن معاً.

هذه المبادرة الصادرة من قلب العالم العربي بمثابة الرد على إقحام الدين في السياسة، ليتحول إلى حرب دينية بدءاً ممن يتبجحون بأن العالم بات منقسماً إلى شطرين متحاربين: شطر مسيحي - يهودي في مواجهة شطر إسلامي، مروراً باليمين الشعبوي الغربي الذي ركب موجة الهوية الضيقة لرفض الآخر وتأجيج ظاهرة الرهاب المزمن من الدين الإسلامي. كذلك تهدف إلى التوقف عن أسلمة القضية الفلسطينية، وأن يدرك الإسرائيليون أن عليهم الآن أن يفكروا بشكل مختلف، وأن الافتراضات القديمة قد فشلت، وأن «اليوم التالي» بالنسبة للإسرائيليين والفلسطينيين لا بد أن يكون مختلفاً.