أجرت أميليا إيرهارت (وهي طيارة أميركية وكاتبة، كانت أول امرأة تطير بمفردها عبر المحيط الأطلسي) مكالمتها اللاسلكية الأخيرة من الجو في الساعة الثامنة و34 دقيقة صباحاً بالتوقيت المحلي، بعد نحو ساعة من إبلاغها سفينة خفر السواحل "إتاسكا" عن نفاد وقود طائرتها، وعدم قدرتها على تحديد وجهتها المقصودة وهي جزيرة هاولاند.
وشملت آخر الكلمات التي وجهتها من قمرة قيادة طائرتها، وهي من طراز "لوكهيد 10 إي إلكترا" Lockheed 10-E Electra بعض الإحداثيات التي تضمنت الآتي: "نحن على الخط 157 337. سنعاود إرسال هذه الرسالة على الموجة 6210 كيلوسايكل، يرجى الانتظار".
لكنها لم تكرر رسالتها.
ويظل مصير إيرهارت أحد الألغاز المستمرة في الولايات المتحدة. وتحول سعيها المشؤوم في عام 1937 إلى أن تكون أول امرأة تحلق حول العالم بطائرة، إلى عملية إنقاذ هي الأوسع نطاقاً - والأكثر كلفة - في تاريخ البحرية الأميركية وخفر السواحل.
ومنذ ذلك الحين، حاول عدد من الباحثين والصحافيين والمؤرخين الكشف عن حقيقة ما حدث لإيرهارت وملاحها فريد نونان فوق المحيط الهادئ يوم اختفائهما. إلا أن التقدم في تكنولوجيا المسح في أعماق البحار - إلى جانب استثمار ضخم بقيمة 11 مليون دولار - قد يقدمان أخيراً بعض الأمل في الحصول على إجابات حاسمة.
اكتشاف في أعماق البحار
وتعتقد شركة "ديب سي فيجن" Deep Sea Vision التي تتخذ من تشارلستون في ولاية "ساوث كارولينا" مقراً لها، أنها ربما عثرت أخيراً على طائرة إيرهارت في قاع المحيط الهادئ.
وكانت الشركة بدأت في سبتمبر (أيلول) الماضي، عملية مسح لقاع المحيط. وباستخدام نظام سونار عالي القدرة (وهو أكثر الأجهزة فاعلية لمسح قاع البحار والمحيطات) تم تثبيته على غواصة تبلغ كلفتها 9 ملايين دولار تسمى "هاغن" Hugin، أجريت في أعماق المحيط المظلمة عمليات مسح عبر مساحة إجمالية تتجاوز 5,200 ميل مربع (13,468 كيلومتراً مربعاً) في المنطقة التي يعتقد أن طائرة إيرهارت وقعت فيها.
وعلى عمق نحو 16 ألف قدم تقريباً تحت سطح المحيط الهادئ، بين الطمي والرواسب البحرية، اكتشف نظام سونار غواصة "هاغن" جسماً غير عادي، على شكل طائرة.
توني روميو، مؤسس شركة "ديب سي فيجن" قال في مقابلة مع برنامج "توداي" على قناة "أن بي سي" الأميركية: "سيكون من الصعب جداً إقناعي بخلاف ذلك، أولاً، إنها تشبه الطائرة بشكل لا لبس فيه، وثانياً، يبدو أنها طائرة إميلي. ففي تلك المنطقة لم توثق حوادث أخرى معروفة، وبالتأكيد ليس من تلك الحقبة وبهذا النوع من التصميم كما يتضح من الذيل المرئي في الصورة".
روميو - وهو ضابط سابق في الاستخبارات التابعة للقوات الجوية الأميركية - قام ببيع أصوله العقارية وأنفق نحو 11 مليون دولار لتمويل الحملة الاستكشافية التي تهدف إلى العثور على طائرة إميلي إيرهارت المفقودة.
وقال لصحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية: "ربما يكون هذا هو الأمر الأكثر إثارة الذي سأفعله في حياتي. أشعر كأنني طفل في العاشرة من عمره يشرع في رحلة للبحث عن كنز".
وعلى رغم حماسة روميو، فقد أبقى على توقعاته بعد الاكتشاف الأولي. وأقر بأن الصور قد تكون لصخور أو لأجسام أخرى تحت الماء. ومع ذلك، أشار إلى أن تلك الصورة تعكس شكل وحجم الطائرة التي حلقت بها إيرهارت في رحلتها الأخيرة.
من المؤسف بالنسبة إلى شركة "ديب سي فيجن"، أن الصورة التي تم تحديدها كانت مجرد صورة من بين آلاف تم التقاطها خلال عمليات المسح المكثفة، ولم تتم ملاحظة هذا الاختلاف فيها إلا بعد مرور ثلاثة أشهر. وكان الطاقم خلال تلك الفترة ابتعد كثيراً عن موقع الاكتشاف.
لكن الآن، وبعدما تم التزود بالصورة والإحداثيات المقابلة لها، فإن المهمة الرئيسة التالية في حل اللغز تستلزم إجراء فحص شامل للبقايا المادية.
صعود إيرهارت
شكل اختفاء أميليا إيرهارت تتويجاً لنحو عقد من القصص الصحافية والإذاعية التي وثقت رحلاتها الجوية التي حققت أرقاما قياسية.
ففي الـ17 من يونيو (حزيران) عام 1928، عندما كانت في الـ30 من عمرها، حققت إنجازاً تاريخياً بأن أصبحت أول امرأة تقود طائرة - كانت من طراز "لوكهيد فيغا 5 بـ" Lockheed Vega 5B ذات لون أحمر زاه وسمتها "بيسي القديمة، الفرس الناري" Old Bessie, the Fire Steed - عبر المحيط الأطلسي. وتصدرت مغامرتها آنذاك عناوين الأخبار في مختلف أنحاء البلاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي وقت لاحق، حققت إنجازاً عندما أصبحت أول شخص يكمل رحلة منفردة عبر المحيط الهادئ، من كاليفورنيا إلى جزر هاواي في عام 1934.
في البداية، كان ينظر إلى إيرهارت على أنها عنصر غريب في مجال الطيران بسبب جنسها، ووصفتها تقارير إعلامية بأنها "أول فتاة" تطير عبر المحيط الأطلسي، بينما أشارت إليها تقارير أخرى على أنها "طيارة" أو Aviatrix (مصطلح جرى استخدامه تاريخياً عندما بدأ الطيران في الظهور، للإشارة إلى الأنثى التي تقود طائرة).
وفي عصر كان يهيمن عليه الطيارون الذكور، واجهت إيرهارت شكوكاً قائمة على النوع الاجتماعي. ومع ذلك، نظراً إلى أنها أظهرت باستمرار مهارتها في قمرة القيادة، فقد انتقلت من كونها غريبة غير عادية، إلى اكتساب اعتراف واسع بها على أنها "طيارة رائعة". واستغلت أميلي شهرتها المتزايدة للدفاع عن المساواة بين الجنسين في مجال الطيران. وناشدت خلال مقابلة أجرتها معها صحيفة "إيفنينغ ستار" في العام 1929، الجمهور "منح المرأة فرصة التحليق في الجو".
وقالت في ذلك الوقت: "يمكن للنساء أن يتفوقن في الطيران كما الحال في أية رياضة أخرى. إن محضهن التأييد والدعم لهو أمر بالغ الأهمية لازدهار الطيران التجاري". وأضافت أن "آلافاً من النساء والفتيات يكتبن لي، وهن حريصات على فهم واقع الطيران والفرص المتاحة للنساء. وفي الحقيقة، لا توجد سمة متأصلة في النساء تجعلهن أقل شأناً من الرجال كطيارين. ويكمن العائق الوحيد أمام نجاحهن السريع في الفرص المحدودة لتلقي التدريب المناسب".
بعد تحقيق إيرهارت سلسلة كبيرة من الإنجازات، وتسجيلها أرقاماً قياسية في مجال الطيران في أواخر عشرينيات القرن الماضي وأوائل الثلاثينيات، كان هدفها النهائي أن تصبح أول امرأة تطوف حول العالم بطائرة.
وبعد اختفائها، ظل الناس متمسكين ببعض الأمل في العثور عليها على قيد الحياة، كي تعاود الطيران مرة أخرى. لكن بعد جهد دام شهرين من دون العثور على أي أثر لها ولمرافقها نونان، اعتبرا في عداد الأموات.
البحث عن أميليا
تولت فرق البحث العثور على رفات أميليا إيرهارت - أو على أي دليل على مصيرها - وذلك منذ اختفائها قبل ما يقرب من 90 عاماً.
وأفضت آخر عملية بحث إلى نتائج مثمرة، وكانت في عام 2012 عندما اكتشف "الفريق الدولي لاسترداد الطائرات التاريخية" International Group for Historic Aircraft Recovery أن إيرهارت ربما بعثت بعدد من نداءات الاستغاثة عبر جهاز اللاسلكي بعد عملية التحطم. ويزعم الفريق أن النداءات المرسلة هذه تم تجاهلها.
ريك غيليسبي المدير التنفيذي لشركة "تيغهار" TIGHAR قال لقناة "ديسكفري نيوز" إن "أميليا إيرهارت لم تختف ببساطة في الثاني من يوليو (تموز) عام 1937. إذ إن نداءات الاستغاثة اللاسلكية التي يعتقد أنها أرسلت من الطائرة المفقودة، تصدرت العناوين الرئيسة، وكانت وراء كثير من عمليات البحث التي قامت بها فرق خفر السواحل والبحرية الأميركية". وأضاف: "عندما فشل البحث، تم دحض جميع الإشارات اللاسلكية التي جرى الإبلاغ عنها بعد الخسارة بشكل قاطع، باعتبارها زائفة ووهمية، وتم تجاهلها إلى حد كبير منذ ذلك الحين".
ويعتقد غيليسبي أن طائرة إيرهارت تحطمت في جزيرة غاردنر، على بعد نحو 350 ميلاً بحرياً (648 كيلومتراً) من وجهتها المقصودة في جزيرة هاولاند. وفي رأيه أنها أمضت أسبوعاً وهي تطلب المساعدة قبل أن تجرف الأمواج طائرتها إلى البحر.
في المقابل، شكك السيد غيليسبي في الاكتشاف الذي توصلت إليه شركة "ديب سي فيجن". وكتب في منشوره على تطبيق "إنستغرام": "على رغم الضجيج الإعلامي، فإن الصورة التي التقطها نظام السونار ليست صورة طائرة أميليا إيرهارت".
في عام 2018، استخدم الباحثون الطب الشرعي الحديث لفحص مجموعة من الرفات البشرية التي عثر عليها في جزيرة نيكومارو في عام 1940، التي كان يعتقد أنها تعود لإيرهارت. ووفقاً لريتشارد ل. جانتز أستاذ الأنثروبولوجيا في "جامعة تينيسي"، فقد قام بدرس تلك الرفات وتوصل إلى استنتاج يرجح أن تكون لإيرهارت.
واستناداً إلى صحيفة "فلوريدا تايمز يونيون"، فقد طرح السيد جانتز نظرية أن إيرهارت هبطت بطائرتها في نيكومارو، وتوفيت متروكة في الجزيرة. لكن الآن، يبدو أن الاكتشاف الذي حققته شركة "ديب سي فيجن" سيغير ما نعرفه عن أيامها الأخيرة.
الخطوات المقبلة
يتعين على خبراء نظام السونار إجراء فحص تفصيلي للجسم الذي اكتشفته "ديب سي فيجن"، قبل التأكد من أنه بالفعل طائرة إيرهارت المفقودة.
الخبير أندرو بيتروسزكا قال لصحيفة "وول ستريت جورنال"، إنه "من دون أن نتفحصه مادياً، لا توجد طريقة محددة لتحديد هذا الجسم على وجه اليقين".
وأعرب السيد روميو عن نيته إعادة إرسال فريقه للموقع لالتقاط صور إضافية لهذا الجسم، قائلاً إن "المرحلة التالية تهدف إلى تأكيد حقيقته، وهناك كثير مما نحتاج إلى معرفته حول هذا الموضوع". وأشار إلى أنه "يبدو أن الجسم قد تعرض لبعض الأضرار بعدما مضى على وجوده تحت الماء نحو 87 عاماً حتى الآن".
وإلى أن تتمكن "ديب سي فيجن" من مواصلة جهودها، فإن اللغز المحيط بطائرة إيرهارت المفقودة سيستمر. ويختم روميو بالقول: "أنا شخصياً أعتقد أن هذا هو أعظم لغز في جميع العصور. ومما لا شك فيه أنه يمثل لغز الطيران الأكثر ديمومة في التاريخ".