"صندوق الفرجة" في لبنان... عودة إلى الحياة

منذ 4 أيام 11

ملخص

أعاد الحرفي في شمال لبنان حسين عثمان إحياء "صندوق الفرجة" بوصفه آلة ساحرة، ومثيرة لمخيلة المشاهدين، وقد كان لافتاً الترحيب الكبير من قبل المواطنين الذين يعتبرونه جزءاً من الذاكرة الجماعية للبنانيين في حقبة ما قبل التلفاز.

"تعا تفرج يا سلام، تعا تفرج بالتمام، شوف قدامك عجايب شوف قدامك غرايب... تعا تفرج يا سلام!"

إن سمعت هذه الجملة أو الأنشودة في شوارع لبنان، قد لا تعلم ماهيتها ولا قصة صاحبها أو عن ماذا تتحدث، لكن إن عدت نحو قرن أو أقل بالزمن، لكانت هذه الجملة كفيلة بأن تجمع عشرات الأطفال واليافعين حول صندوق خشبي ملون وفيه كثير من الحياة والقصص... إنه "صندوق الفرجة".

يثير "صندوق الفرجة" في لبنان مشاعر متناقضة، فهو مدعاة للفرح والحنين لدى كبار السن، فيما يشكل مصدر دهشة لدى الصغار والمراهقين، وهذا ما تعكسه ردود الأفعال لدى مشاهدة الصندوق الذي صنعه الحرفي حسين عثمان في مدينة طرابلس شمال البلاد، حيث يبادر بعضهم بالسؤال عن طبيعة هذه الآلة المزركشة التي يتوجها "طربوش الباشا الأحمر"، فيما يلح آخر على الحرفي من أجل تشغيله بغية الخوض في تجربة جديدة، إلا أن المشترك هو الازدحام حيثما يحضر "صندوق الفرجة" سواء أكان في الحدائق العامة كما حصل في حديقة أبي سمراء، أو معرض رشيد كرامي الدولي، وهناك تطرح علامات الاستفهام حول ماهية هذا الجهاز.   

صندوق العجب في طرابلس لبنان عام 1970 (عبد الهادي الجزار)

آلة ساحرة

توّج الحرفي حسين عثمان تجربة عمرها 35 عاماً في مجال النحت وحفر الموبيليا واللوحات بصناعة "صندوق الفرجة"، ويعبّر الشاب البالغ من العمر 43 عاماً عن فرحته بالنجاح بإعادة الحياة إلى هذه الآلة التي "كثيراً ما سمع عنها من آبائه وأجداده"، ويقول "خلال تجربتي التي امتدت لأعوام طويلة صنعت كثيراً من الأدوات، وأخيراً تمكنت من تصنيع صندوق الفرجة الذي كان يعتبر بمثابة التلفاز في الزمن الماضي". وقد نجح عثمان في إنتاج أول صندوق من نوعه بعد عمل استمر مدة شهر، وبجهود فردية خاصة، وتمكن من صنع آلة يشغلها الفنان بيديه، من دون الاستعانة بأي تيار كهربائي أو مصدر طاقة خارجي، إذ تمكن من بناء الهيكل الخارجي، ومن ثم تزويده بنافذتين للمشاهدة، وبعدها قام بتنجيد الغطاء الخارجي المزركش، كذلك أعد "الشريط المصور" الذي يتألف من عشرات الصور لمواقع تاريخية وتراثية.

تاريخ لبنان الغني

ما إن ينجز الفنان مهمة تركيب القطع الميكانيكية المتعددة، حتى يدعو المارة والموجودين لإلقاء النظرة، تدفع "الحشرية" كثراً لاكتشاف هذا الجهاز "الغريب"، فيما يستدعي "الصندوق" كثيراً من الذكريات.

ويؤكد حسين عثمان "ما إن يسمع الطاعنون بالسن أنه أعاد تشغيل صندوق الفرجة، حتى يشعروا بالفرح ويسترجعوا ذكريات عمرها أكثر من نصف قرن"، عندما كان هؤلاء يتحلقون في الأحياء والأرياف حول صندوق الفرجة لرؤية المشاهد الساحرة من أماكن بعيدة. يرتدي عثمان طربوشه الأحمر، وسترة مذهبة، قبل أن يدعو المشاركين إلى الجلوس أمام النافذة التي يتسلل من خلالها البصر إلى داخل العلبة السوداء. ويلفت الفنان إلى أنه "جمع العشرات من الصور التي توثق المواقع الأثرية والتراثية الجميلة في لبنان، بدءاً بالحقبة العثمانية، ومن ثم عصر الانتداب، ولوحة جلاء الفرنسيين الموضوعة في منطقة نهر الكلب شمال العاصمة بيروت، وعدد كبير من المساجد والقلاع والساحات العامة من أقصى شمال البلاد إلى مدينة صور في الجنوب، وساحة البرج في بيروت التي كانت شاهدة على الترامواي وسكة القطار"، ويعبّر الفنان عن سعادته بأنه تمكن من "صناعة شريط لتاريخ لبنان الجميل".

عرض بصري متكامل

يقف الشاب على مصطبة مرتفعة قليلاً، يمسك بأداة التحريك اليدوية، يديرها شيئاً فشيئاً، ويبدأ برواية القصة للجالسين، يستفيد من مرآة عاكسة في الداخل لتمييز واستكشاف الصور، ويخبر الزائرين بتاريخ تلك المواقع وأهميتها، تثير سردية عثمان كثيراً من الفرح والحسرة في نفوس الشبان وصغار السن، عندما يستكشفون وجود العشرات من المواقع الجميلة في لبنان التي يجهلها أهلها وقاطنو البلاد، كذلك يتعرفون إلى حقب تاريخية عنوانها الازدهار والغنى، وهو على خلاف ما تعيشه البلاد حاضراً.

يلفت حسين عثمان "تقع على عاتق الفنان مسؤوليات كبيرة، فهو من جهة عليه واجب الإضاءة على الجوانب الجميلة في الحياة، كما عليه أن يثبت قدرة الفن على التغيير لكل المواطنين، والبحث عن أساليب للترفيه عن النفوس وتأمين التماسك الاجتماعي".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

قصة صندوق الفرجة من البداية

تكشف بعض التقارير الصحافية عن أن قدوم هذه الآلة الترفيهية إلى منطقة الشرق الأوسط وتحديداً إلى لبنان حصل في أوائل القرن الـ20 وتحديداً مع الانتدابين الفرنسي والإنجليزي، عندما امتلأت المنطقة بالصناعات الترفيهية القادمة من أوروبا، وتأثرت أشكال الفنون فيها بهذه الصناعات مما ترك تحولات ثقافية وفنية ما زالت قائمة حتى اليوم.

ومن هذه الصناعات "صندوق الفرجة" الشهير الذي يسميه بعض اللبنانيين "صندوق العجب" نظراً إلى ما يكتشفه الداخل إلى أسراره من صور وألوان وأضواء على وقع ترداد صاحبه أغنيات أو قصصاً مشوقة أو تاريخية، فيما تعود بدايات تصنيعه عالمياً إلى القرنين الـ17 والـ18.

يقول المؤرخون إن هذه الآلة الخشبية بعدستها الساحرة كانت بمثابة نافذة على العالم حينها، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وكانت وسيلة تثقيفية تنقل تعرف الناس إلى دول أخرى وشعوب وثقافات لم يكن من الممكن الوصول إليها في ذلك الوقت.

إبداع مستمر

بالعودة إلى لبنان، وإلى طرابلس شمالاً بالتحديد، يقول حسين عثمان إنه تمكن من ترسيخ موقع "صندوق الفرجة" في قلب الطقوس الرمضانية، فقد شارك أخيراً في احتفالية نظمتها جمعية "طرابلس حياة"، وشهد إقبال الآلاف من المواطنين من مختلف المناطق اللبنانية، وهو يخطط لجولة في أحياء المدينة الشعبية خلال فترة العيد من أجل تعريف الجيل الجديد بهذه الآلة، التي تعطي صورة عن "الأساليب البسيطة التي أدخلت الفرح إلى قلوب ونفوس آبائنا وأجدادنا"، ومن أجل تعريف الناشئة بالتراث البصري والعمراني الغني لبلاد الشام، ويشدد على أن "هذا النجاح هو خطوة وإنجاز في آن، وهو سيدفعه من أجل محاولة صناعة أشياء إضافية"، فهو تمكن في السابق وبجهود يدوية من تصنيع بيانو، وبندقية خشبية للرقص الاستعراضي، وقيثارة، والعشرات من اللوحات، إضافة إلى "صندوق الجهاز" الذي كانت العرائس تنقل فيه ملابس جهازها إلى منزل زوجها.

يبدي الزوار والمتابعون إعجابهم بعمل عثمان الذي يستعين به مهندسون ومصممون لإنتاج بعض قطع الأساس الدقيقة والمميزة، متحدثاً عن استثمار ناجح في مواقع التواصل الاجتماعي للترويج لفنه الحرفي، و"تفاعل كبير مع المحتوى البصري الذي يقدمه عبر هذه المواقع، إذ يتفاعل بفرح وإعجاب اللبنانيون المنتشرون في كل أنحاء العالم".