هل بات عالم صناعة المحتوى على مواقع التواصل الاجتماعي مهنة لمن لا مهنة له؟ سؤال بدأ يتردد صداه أخيراً مع انتشار ما يطلق عليهم "إنفلونسرز" أو "مؤثرين"، سواء كان لديهم خلفيات علمية ومهنية واجتماعية تؤهلهم لممارسة "التأثير" في قرارات المتابعين أو في خياراتهم الحياتية أم لا، فالهدف هو التربح المادي من وراء كل هذا الكم من الفيديوهات والصور والتدوينات بصرف النظر عن قيمة ما يقدمونه.
وفي سبيل الربح يظهر بعضهم بصحبة شركاء حياتهم وأبنائهم وربما أمهاتهم، ويلجأون للطرق الأكثر يسراً حتى وإن اقتضى الأمر تصوير "فضائح عائلية" في بعض الأوقات من أجل خطف اللقطة وسرقة التريند، وزيادة قائمة المتابعين الذين يتحدد بناء على حجمهم ثمن المنشور الإعلاني، ومن هنا بات التباهي والتفاخر بكم المتابعين أمراً رائجاً ومطلوباً ولو على حساب ضرب مبدأ الخصوصية في مقتل.
ملوك "إنستغرام"
كريستيانو رونالدو أصبح المتربع الأكبر على عرش نجوم "إنستغرام"، فهو الأعلى أجراً، إذ يصل ما يتقاضاه في مقابل المنشور الإعلاني الواحد على الموقع إلى نحو مليونين ونصف مليون دولار بناء على عدد متابعيه الذي يقترب من 600 مليون، وتأتي خلفه كايلي جينر صاحبة العلامة التجارية الخاصة بمساحيق التجميل والأخت غير الشقيقة لكيم كاردشيان بنحو 400 مليون متابع و180 مليون دولار في مقابل المنشور الإعلاني الواحد.
وإذا كان استغلال شهرة الرياضي أو الفنان في الترويج الدعائي للسلع أمراً معروفاً منذ زمن "الأبيض والأسود"، فإن أغلب المؤثرين في عالم "البلوغرز" و"اليوتيوبرز" لا يأتون من خلفية رياضية أو فنية لكنهم صنعوا اسمهم من باب فيديوهات الهواة، سواء باستعراض ملابسهم أو مشترواتهم أو الطبخ أو الأكل بشراهة أم حتى مجرد فيديو يلتقطونه وهم يستمعون لأغنية في السيارة، وهي طرق مثلاً تعتمدها جورجينا رودريغز صديقة كريستيانو رونالدو التي يتابعها أكثر من 50 مليوناً لمشاهدة ما تتسوقه واختياراتها من الملابس ولقطاتها العائلية، وبالطبع تتهافت عليها العلامات التجارية لتكون وجهاً لها.
أداء جورجينا يبدو مقارنة بكثيرين معتدلاً فهناك من يبثون حتى خلافاتهم العائلة للجمهور سواء كانت مصطنعة أو حقيقية أو على العكس لقطات الحب والغرام والتقدير والامتنان مع شريكهم، فالأمر في أوقات كثيرة لا يحتاج إلى مهارة وإنما معرفة كيفية التقاط المتابعين، وهناك طرق سهلة ويسيرة وأخرى تحتاج إلى التركيز في صناعة المحتوى.
وبنظرة على ما يجري في عالم التأثير العربي يبدو اللجوء إلى الطرق السطحية هو الأكثر إقبالاً، إذ لا يحتاج الأمر سوى إلى هاتف ذكي وتقديم محتوى مبهج أو طريف، قد يتناول أزمة شخصية أو تجربة خاصة، وهي أمور لا تحتاج إلى مهارات أو دراسة، ومن شأن أي فيديو مرتبط بتلك التفاصيل أن يجد رواجاً على "تيك توك" و"إنستغرام" و"فيسبوك"، لتتعدد مصادر الربح التي تشجع صاحب الحساب على تقديم مزيد من هذه النوعية وربما كثير من التنازلات طالما أنها أثبت فعاليتها، وبعد النجاح يصبح أكثر شعوراً بتحقيق الذات، وتتعاظم طموحاته في الوجاهة الاجتماعية والظهور الإعلامي، حتى أن هناك أجيالاً من الأطفال يحلمون بالتقاط صورة واحدة مع المؤثرين المفضلين حتى لو كان مجالهم هو "اللاشيء".
وفي حين يعتقد بعضهم أن عدم وجود مهنة واضحة قد يشعر المؤثر وعائلته بالنقص، ولكن على العكس تماماً فأبناء المؤثرين يشعرون بتميز وفخر، ويتحدثون عنهم في جلسات الأصدقاء وبين أقران الدراسة بتباه شديد، إذ تحكي المحامية أسماء خالد أن ابنتها شعرت بسعادة غامرة حينما اكتشفت أن إحدى زميلاتها في صف أكبر منها هي ابنة مشهورة من مشاهير "إنستغرام" الذين تتابعهم، وتقدم محتوى عائلياً عن مغامراتها مع أطفالها.
وكان لافتاً لجوء المؤثرين في الفترة الأخيرة للترويج لحسابات تحمل أسماء أطفالهم الصغار، وهو ما فعلته المغنية دنيا بطمة مع ابنتها غزل، وكذلك المصممة بسمة بوسيل مع ابنتها تاليا تامر حسني، وأيضاً سيرين عبدالنور مع ابنتها الكبرى، إذ لا يزلن في سن صغيرة لا تؤهلهن لاتخاذ قرار نهائي بالظهور على السوشيال ميديا أم لا، وكأنهن يورثنهن المهنة ويمنحنهن بعضاً من المتابعين كي يسهلن عليهن المهمة.
الأكثر جدلاً الأكثر ربحاً
في مصر حوكمت نجمات "تيك توك" في قضايا اتجار بالبشر واستغلال القصر وتقديم محتوى إباحي يتنافى مع قيم المجتمع، ولا يزال هذا العالم يحفل بالغرائب والعجائب التي لا يعاقب عليها القانون لكنها تبقى تصرفات صادمة للغالبية العظمى، لا سيما حينما يصبح المحتوى فضائح عائلية، فيظهر في الفيديو الأب والأبناء والزوجة والأقارب، ويستعرضون يومهم أمام الجمهور سواء كانوا يطهون أو يتشاجرون أو يقطعون الفاكهة أو يصنعون المقالب المحرجة، والأمر لا يخلو بالطبع من المبالغة في الضحك والصراخ والبكاء لجلب مزيد من "الزبائن".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فمثلاً على رغم الانتقادات الموجهة للثنائي أحمد وزينب وعائلتهما، سواء بتصنع الخلافات أو فضح أسرار حياتهم أم الإساءة إلى ابنتهما ولو حتى بالكذب لرفع نسبة المشاهدات، إلا أن عدد متابعيهما في ازدياد وتتجاوز أرباحهما من "يوتيوب" بحسب بعض التقديرات مليون ونصف مليون دولار سنوياً، أما قناة أحمد ندى فعائداتها قد تصل إلى 10 ملايين دولار في العام، وتصل أرباح قناة حمدي ووفاء، وهما ثنائي شهير ينشران يومياتهما مع العائلة، إلى نحو 5 ملايين دولار، بالتالي فلا ضير أبداً بالنسبة إلى الغالبية من استعراض جميع تفاصيل الأسرة على أوسع نطاق إذا كان المقابل المادي بتلك الضخامة.
البلوغر المهتمة بعالم الموضة آية ممدوح لا تستنكر بشكل كامل لجوء بعض المدونين لاستعراض حياتهم الشخصية بأدق تفاصيلها عبر منصاتهم المختلفة سواء من خلال صور أم فيديوهات، لافتة إلى أن الجمهور ينجذب بسرعة شديدة لهذا النوع من المحتوى، قائلة "كل واحد حر في طريقة تعامله مع السوشيال ميديا ومن حقه أن ينشر ما يريد، سواء تفاصيل شخصية أم نشاطات عادية أو تجاربه في التسوق".
لكنها مع ذلك تشدد على أنها من ناحيتها ترفض تماماً المتاجرة بما يجري في حياتها وتقلباتها النفسية والاجتماعية على الجمهور، وتشرح وجهة نظرها بالقول "في البداية لم أكن أرى أزمة في ذلك لكنني تعرضت لأذى كبير ووقعت لي مشكلات فاتخذت قراراً بعدها بعدم نشر أية معلومات خاصة بي، سوى فقط الكبرى مثل الخطوبة أو الزواج، وأنا سعيدة بأن خطيبي بعيد تماماً من عالم التواصل الاجتماعي، فهذا شيء مريح بالنسبة إلي".
ضوابط وشروط
آية ممدوح التي درست الجغرافيا وتفرغت لعالم السوشيال ميديا، إذ يتابعها 800 ألف متابع، اكتسبت خبرة كبيرة لا سيما أنها بدأت هذا المجال بالصدفة وقبل أن ينتشر مفهوم "البلوغر" بهذا الشكل، إذ كانت تنشر صورها اليومية على "إنستغرام" وحصدت الإعجاب بطريقة تنسيقها لملابسها، تقول "من أسوأ ما حدث في عالم السوشيال ميديا هو رغبة المتابعين في تقليد من يتابعونهم في ما يتعلق بالاحتفالات الخاصة، سواء أعياد ميلاد أم خطوبة، ويشعرون بالنقص إذا لم يتلقوا الاهتمام نفسه، مما يؤثر سلباً في رضاهم عن معيشتهم، على رغم أن بعض تلك السلوكيات لا تناسب طبيعة حياتهم من الأساس".
أحد موظفي بنك شهير في مصر قال إنه يواجه وزملاؤه صعوبة في مساعدة البلوغرز والمدونين في توفيق أوضاعهم المالية بشكل قانوني، موضحاً أن "الأموال التي تحول لهم يجب أن يعرف مصدرها بشكل دقيق، وأن يكون لديهم مهنة محددة في بطاقة الهوية، ويقدموا ما يفيد عملهم لدى مؤسسة أو شركة كي يتمكنوا من التعامل على حساباتهم المالية، وبما أن أغلبهم ليس لديهم مهنة سوى الظهور في فيديوهات، فإن الأمور تتعقد في أغلب الأحوال بعد تشديد القوانين التي تتعلق بمصادر أموال الإيداعات البنكية في مصر".
بيزنس الثنائيات
يرى أستاذ الإعلام الرقمي فادي رمزي أن "السهولة في جذب المتابعين أغرت الأجيال الأصغر سناً بمحاولة الدخول إلى هذا العالم، بل إن بعض المراهقين أصبحوا يحلمون بأن يتحولوا إلى مؤثرين بشكل أساسي نظراً إلى أنهم يرون أن وصف ’صانع محتوى‘ بات من السهل جداً الحصول عليه، إذ تغيرت المعادلة بعد أن أصبحت فكرة التربح من الإعلانات عبر مواقع التواصل الاجتماعي سهلة التحقق في المقابل مع مجهود يقترب من الصفر أو فعلاً هو يساوي صفر، ولهذا السبب أصبحت مهنة لناس كثر على مستوى العالم وفي المنطقة العربية وبينها مصر".
يقول رمزي إن الغالبية في عالم المدونين واليوتيوبرز يجعلونها مهنة من لا مهنة له، مستدركاً "صحيح أن هناك محتوى جيداً ومفيداً يقدم له علاقة باكتساب المهارات وتربية الأطفال والتواصل الذكي وتطوير الأعمال، لكنه يضيع وسط الزحام الشديد للمحتوى السطحي".
وفي ما يتعلق بعالم صناعة المحتوى بين الثنائيات، يشير رمزي إلى أن هذا يحدث في جميع أنحاء العالم، والغالب أن التعامل مع المحتوى الذي ينتجه الأزواج يكون على أساس "البيزنس"، بالتالي فما يراه المتابع لا يعبر بالضرورة عن حقيقة ما يعيشه الثنائي، وكثيرون منهم يبالغون في ما يستعرضونه أمام الجمهور من أجل تحقيق المشاهدة والأرباح.